جمر الندى

عبدالجابر حبيب

 

مهلاً يا آذار، قبل الرحيل،

ألا تريد أن تعرف من أنا؟

لأخبرك بكل أحزاني…

أنا نايٌ مثقوبٌ بريحِ المآسي،

كلّما عبرتني النكباتُ،

صرختُ رماداً.

 

في فمي أنينُ ديرسم،

وفي يدي حفنةُ ترابٍ من دموعِ حلبجة،

يا ليته كان تراباً،

بل رمادُ أجسادٍ

ذابتْ تحت سمِّ الغزاة.

 

على كتفي حملتُ الزابَ،

ظننتُه نهراً،

فإذا به مقبرة مفتوحة في ليلِ السليمانية،

وفيهالم تتوقف صرخات الأرواح،

منذ أن كنا أطفالاً.

في دروبِ خانقينَ الحزينة،

في سهولِ مندلي التي زرعت القمحَ

قبل أن تزرعَ العظامَ.

 

منذ فجر التاريخ،

وآمد تنادي، لكنّ صوتَها يضيعُ

بين جدرانٍ تختنق بالحكايات،

وكوباني تفتحُ ذراعيها للريحِ،

لكنّها ريح لم تحملْ إلا صدى من رحلوا

قبل أن ينطقوا أسماءهم.

 

في سنجارَ، رأيتُ القمرَ شاحباً،

يمسحُ دموعَ أمهاتٍ ينتظرن العائدين

ولا عودة…

 

وفي عفرينَ، تُقلع الأشجارُ

كالعبيدِ، تُساقُ إلى أرضِ الغرباء،

تُجرُّ جذورها على الإسفلتِ

كجثث بلا أكفان.

 

نعم يا آذار،

كنتُ كصخرةٍ منسيةٍ في ليلِ كركوك،

يأتيني النهرُ، يربّتُ على كتفي،

قلتُ له: يا نهر، ألا تراني؟

لستُ حجراً، بل جسداً متصلّباً،

تختزنُ فيه صرخةَ شيخِ محمود الحفيد،

وعلى جلدهِ جراحُ مظلوم دوغان،

وفي عينيهِ مرسومةٌ وجوهُ أطفالٍ

بلا أسماءٍ في السجلات،

ومن قلبه تشع أرواحُ المقاتلين

في جبالِ كردستان،

وفي أنفاسهِ نداءُ الشيخِ سعيد البيراني،

وصدَى كلماتِ قاسملو،

حين قال للريح: “لن نسقطَ حتى آخرَ حلم!”

 

 

بلى يا آذار،

في ليالي الأنفالِ، سمعتُ الأرضَ تنادي،

لكنّ صوتها اختنقَ تحت التراب،

رأيتُ الريحَ تحمل غبارَ القبورِ الجماعية،

ورأيتُ القمرَ يحدّقُ في وجوهِ المختفين،

يحاولُ أن يُضيءَ أسماءهم

قبل أن تبتلعَها العتمة.

 

نعم يا آذار،

رأيتُ معبدَ لالش ينزفُ بخوراً،

ويهمسُ بصلواتِه فوق جباهِ الناجين،

واستغربتُ أكثر عندما شاهدتُ الأرضَ

تغلق أبوابَها، وزاد استغرابي عندما علمتُ أنها

أضاعت مفاتيحَها في جيبِ العدم.

 

نعم يا آذار،

هنا فرحٌ وحيد،

وهناك أحزانٌ عشّشتْ في أرواحِنا،

يا أرض النفي، كيف أعودُ إليكِ؟

وأنتِ محروثةٌ بأقدامِ الغزاة،

معلّقةٌ على خرائطَ لم يُرسمْ فيها

إلا رمادُنا؟

 

لكن،

حتى وإن غطّى الرمادُ وجهَ الطريق،

سنحملُ أسماءَنا جمراً في راحاتِنا،

ونبعثرُها أملاً في حقولِ الغد،

لعلّ ربيعاً لا يموتُ يبشرنا،

فينبتُ من رمادهِ ظلُّ أفين،

وترفرفُ روحُها كزهرةٍ في مهبِّ الجبال،

ويكتبُ لنا النهرُ نشيدَ العودة،

فنقفُ جميعاً،

ونغنّي للريحِ والجبالِ:  “أي رقيب “

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

(ولاتي مه – خاص):
على امتداد أكثر من خمسة عقود، يمضي الفنان والمناضل شفكر هوفاك في مسيرةٍ حافلة تجمع بين الكلمة الثورية واللحن الصادق، ليغدو أحد أبرز الأصوات التي عبرت بصدق عن آلام الشعب الكردي وأحلامه بالحرية والكرامة.

منذ انخراطه المبكر في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني في سبعينيات القرن الماضي، ظل شفكر…

ماهين شيخاني

في فجرٍ بعيدٍ من فجر الأساطير، خرج رستم، بطل الممالك الفارسية، في رحلة صيدٍ طويلة. ضلّ طريقه بين الجبال حتى وجد نفسه في مدينة «سمنغان»، حيث استضافه الملك في قصره. هناك التقى بالأميرة تَهمينه، فتاةٌ تفيض حُسنًا وشجاعة، قالت له بصوتٍ يقطر صدقًا:

«يا رستم، جئتُ أطلب من البطل ولداً مثله، لا كنزاً…

إبراهيم اليوسف

لم يكن إصدار رواية” إثر واجم” في مطلع العام عام 2025 عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، مجرّد إعلان عن عمل سردي جديد، بل ولادة مشروع روائية- كما نرى- تُدخل إلى المشهد الروائي صوتاً لم يُسمع بعد. هذه الرواية التي تشكّل باكورة أعمال الكاتبة الكردية مثال سليمان، لا تستعير خلالها أدواتها من سواها، ولا تحاكي أسلوباً…

عصمت شاهين الدوسكي

الشاعر لطيف هلمت غني عن التعريف فهو شاعر متميز ، مبدع له خصوصية تتجسد في استغلاله الجيد للرمز كتعبير عن مكنوناته التي تشمل القضايا الإنسانية الشمولية .

يقول الشاعر كولردج : ” الشعر من غير المجاز يصبح كتلة جامدة … ذلك لأن الصورة المجازية جزء ضروري من الطاقة التي تمد الشعر بالحياة…