إلى أمي في ذكرى وفاتها الثاني :

خالد إبراهيم 

نيسان: الممرُّ بين وجهين، بين صراخٍ وتوابيت

نيسانُ ليس شهرًا، بل شقٌّ في زمنٍ يُجيدُ الانهيارَ على مهل.

كأنّ اللهَ، وقد أرهقه التوازنُ، قرّر أن يُفلت الزمامَ في هذا الشهرِ وحده، فجعلني بابًا تُطرَقه الحياةُ برِضيعٍ يشبهني، وتدخلهُ الوفاةُ بأمٍّ كنتُ أُشبهها… ثم انكسرتُ.

نيسان…

أأنتَ بابُ الولادةِ أم نعشُها؟

أأنتَ طَرقٌ سماويٌّ على نافذةٍ كنتُ نائمًا فيها، أم زلزالٌ صغيرٌ في قاع الروح، يُعيدُ تشكيلَ الهواءِ في رئتي؟

وُلِدت ملامحي من جديدٍ في الثاني عشر:

فمٌ يعرفني، عيونٌ تُكرّرني، كأنَّ اللهَ أعادني قطعةً من نفسه،

وقال لي: خُذ، هذا أنتَ حين كنتَ بلا ندم، هذا أنتَ قبل أن يُصيبكَ الزمنُ بالأبوّة والوحشة.

ثم جاء الخامس والعشرون:

وأعاد أمي إلى حيث بدأت، عادت إلى الرقة لا لتُقيم، بل لتُخْتَتَم.

كأنّ دورةَ الغربةِ صارت هندسةً إلهيّة، لا تكتملُ إلّا حين تُغلقُ على جسدٍ كان ممرًّا لي، وحين تسقطُ صخرةُ الغيابِ على رئتي كأنها سورةُ حتفٍ مقروءةٌ بالمقلوب.

أُمي…

أيتها الغريبةُ التي حملتني من نيسانِ المجيء، ثم ماتت في نيسانِ العودة، لماذا صرتِ عكسَ الطريق؟

ألم تقولي إنّ الطريقَ نفسهُ لا يُفضي إلى الموتِ مرتين؟

لكنكِ مشيتِه، ومِتِّ فيه، وتركتيني أعدّ الأصواتَ التي كانت تشبهكِ، ثم تلاشت.

يا نيسان، يا شقَّ الفردوسِ المائل، لقد خنتَ توازنَ المعجزة.

جعلتني جسدًا له شَبَهٌ يُبصرُني كلَّ صباح، وله غيابٌ يسحبني من سريري إلى سردابِك الداخليّ، فأقعُ بين ولادةٍ تُردّدني، وموتٍ يُخرسني.

نيسان يا قاتل الأمهات، أيّ سمٍّ تعصره السماء في عروقي؟

أيّ عاصفةٍ تعصف بي، بين ولادةٍ وموت،

بين حياةٍ وسراب؟

ألم يكن كافيًا أن تُولد ابنتي في هذا الشهر، ماذا كان يعني أن يُسلب مني الوطن في نفس الشهر؟

أنتَ الربيع المسموم، الذي يقدّم لي الحياة خيانة، ويمسحني بالموت حتى أذوب فيه، أنتَ الذي لا تزرع الزهور، بل تروي الأرض بالألم، تجعل الشوك ينبت في قلبٍ فارغ.

أنا الآن لستُ رجلًا.

أنا مجازٌ مشطوبٌ من كتبِ النحو. ظلٌّ لا يصعد ولا ينزل، يسكن بين أنفاسٍ تعرف مَن أنا، وأنفاسٍ كانت تعرف مَن كنتُ… حين كانت أمي هنا.

ابنتي تشبهني… نعم. لكنها لا تعرف كيف أن الحبرَ صارَ عزاءً. لا تعرف كيف أكتب اسمَ أمي، ثم أُرْغِمُ يدي على أن تمحوه من دفاتر المعيشة، كيف أمسحُ الغبارَ عن صورتها، ثم أزرع الغبارَ في قلبي ليشبهها أكثر.

أيُّ هندسةٍ هذه؟

أن يُولدَ شبهي من جهة، وأن يُدفَن أصلُ شبهي في الجهة المقابلة، وأن أُطالبَ أنا، المسكينُ الذي في المنتصف،

أن أبتسم لواحدٍ منهما، وأركعَ للآخر؟

أأنا رسولُ الحياة أم حارسُ الرحيل؟

أأنا حجرُ ميزانٍ يتأرجح على قلبٍ لم يعد قلبًا بل عظمًا نقيًّا ينطق؟

في نيسان، تعطّلت اللغةُ، وصارت الجملةُ مثل نايٍ مكسورٍ يُصفّرُ في جنازة.

أنا اليوم ليس لي عنوان.

إلا هذا:

“يتيمٌ عمره خمسون، يحبو على جسرٍ بين بكاءٍ لم يُولد،

ودعاءٍ لا يصعد.

رحم الله جميع الامهات

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…