الحنين بلون أخضر.. (تفاصيل في سردية الأخضرار والهوية عند الروائية والفنانة التشكيلية السورية المغتربة نضال سواس)

عبدالوهاب پيراني

 

تعد نضال سواس إحدى الوجوه السورية الفنية المبدعة التي رسمت بجرأة ملامح الألم والأمل في آن واحد، المعتزة بجذورها، حيث ولدت وعاشت ورسمت وكتبت، وازدادت قلقاً في ظل معاناة الوطن من الحرب والدمار، التي تركت بصمات لا تمحى ،وارهقت ذاكراتها البصرية واللونية، وحملتها الظروف إلى دروب الاغتراب، حيث فرض الواقع البارد للصقيع الاجتماعي والعلاقات المجمدة تحديات جديدة  على تجربتها ورحلتها الفنية.

استمدت نضال سواس من تراثها وبيئتها مصادر إلهامها، فوضعت خلفية من الذكريات المؤلمة وأحلام العودة، لتجسد ذلك في لوحات تعبر عن صراع الهوية والحنين إلى الدفء الإنساني.

عند تأمل اللوحة، يتجلى أمام الناظر مشهد طبيعي يمتد كحقولٍ أو وادٍ فسيح، في الجزء العلوي، يظهر فضاء سماوي بلون أخضر شاحب يتدرج نحو أشكال غائمة خفيفة. هذا اللون الأخضر يعد بمثابة رمز مزدوج؛ فهو يستحضر في آن واحد إحياء الطبيعة في سوريا التي عانت من الدمار، وفي الوقت نفسه يشير إلى حالة وسطية تتأرجح بين الأمل والغربة، كما يحاكي برودة وطقس السويد البارد الذي يفصلها عن جذورها العائلية الدافئة.

يتشكل المشهد بتدرج سلس بين التلال شبه المنخفضة التي تبدد خط الأفق البعيد والفضاء السماوي اللامتناهي، يخلق هذا التباين إحساساً بالرحابة والانفرادية في آن واحد، كما لو أن الأرض والسماء في حالة عناق، في نهاية بعيدة يصعب بلوغها، يعزز غياب التفاصيل الدقيقة مثل الأشجار أو العناصر البشرية من شعور العزلة، مما يفتح باب التأمل والبحث عن الذات وسط صمت مدوي مقاربة لحالة الاغتراب التي تعيشها الفنانة في مغتربها الأوربي.

يمثل اللون الأخضر الباهت، خاصة في السماء، محور اللوحة الأساسي، فهو ليس مجرد لون طبيعي بل رمز عميق متعدد الأبعاد، ففي سياقها السوري، يعيد اللون الأخضر إلى الأذهان مناظر الطبيعة التي رغم الدمار تنبض بقلوب البقاء والهوية، بينما في واقع الاغتراب يعبر عن برودة الجو الاجتماعي وسكون العلاقات. هنا يتداخل الحلم والواقعية في آن واحد، فالشمس غير ظاهرة والهدوء الناعم للضوء يوحي بمزيج من الأمل والحنين، حالة تتماشى مع العوالم الشعرية والروائية التي طالما عبرت عنها سواس في كتاباتها وأعمالها التشكيلية.

يمكن اعتبار هذه اللوحة متأثرة بمدرسة الفن التعبيري الانطباعي؛ حيث تستخدم درجات الألوان الناعمة والخفيفة لتكوين فضاء تأملي ينبض بالتناقضات الوجدانية، فالمنهجية التعبيرية في اللوحة تركز على إيحاء المشاعر والذكريات بدلاً من التفاصيل الدقيقة، فتبدو اللوحة قصيدة بصرية تعبر عن صراعات الهوية والحنين والانتماء.

وتتلاقى هذه الطريقة مع العوالم الشعرية والروائية التي تنتمي إليها سواس، حيث تعيد إنتاج صورة الوطن الذي تآكلت معالمه في زمن الحرب، ولكنها في الوقت نفسه تضيء بصيص أمل رغم صقيع الأغتراب.

وختاماً يمكن القول إن تجربة نضال سواس في الفن التشكيلي رحلة متفردة تتجاوز حدود اللوحة لتصبح رسالة إنسانية تنطق من أعماق الوجدان، فقد استطاعت الفنانة من خلال أعمالها أن تجسد التناقض بين نار الحرب وسكينة الاغتراب، بين دفء الوطن وبرد العلاقات في المهجر، إذ تمزج عملها بين رمزية اللون الأخضر ونبرة الشعر والرواية، تعيد للذاكرة  صور الحنين والأرتباط بالهوية،و تتجلى هذه النقاط في  تجربة سواس كفنانة تشكيلية عاشت ويلات الحرب وتابعت من منفاها واقع بلدها سوريا وحجم الدمار النفسي والعمراني والاقتصادي والاجتماعي ،إضافة للدمار الأخلاقي البيئي، وكانت اللوحة القاتمة للحرب وكان لحضور اللون الاحمر والازرق والأصفر ركيزة أساسية تعبيرية في لوحات المرحلة الموازية للحرب فقد عاينت الواقع السوري    من واقع متعدد الأوجه؛ واقع سوريا التي عانت الدمار والدم، وقارنت بين بلدها المثخن بالجراح الدافىء دماً  ومملكة السويد الآمنة المتكورة على ذاتها باحثة عن دفء، والتي فرضت برودتها الاجتماعية على ألوانها، لكن روحها قادرة ودوما  على تحويل الألم إلى فن ينبض بالحياة ويعيد للأمل معانيه الخالدة، ولهذا كان الانتقال الى اللون الاخضر انتقالاً في تجربتها الفنية في المستوى اللوني والادبي، إذ نجد أن لوحة نضال سواس ليست مجرد عمل فني، بل هي قصيدة بصرية تجمع بين معاني الوطن والاغتراب، تعكس رحلة ذاتية واجتماعية تتداخل فيها حدود الزمن والمكان لتظل الهوية دائماً مصدر إلهامها وتوجهها وعشقها الأزلي .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف

الكتابة البقاء

لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال من هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن…

أعلنت دار الخياط – واشنطن عن صدور رواية جديدة للكاتب والباحث السوري مازن عرفة بعنوان «نزوة الاحتمالات والظلال»، لتضاف إلى سلسلة أعماله الأدبية التي تجمع بين العمق الفكري والخيال الجامح، وتفتح أفقاً جديداً في السرد العربي المعاصر.

وتطرح الرواية، التي جاءت في 190 صفحة من القطع الوسط، عالماً غرائبياً، تتقاطع فيه نزوات الطغاة مع رغبات الآلهة،…

غريب ملا زلال

أحمد الصوفي ابن حمص يلخص في تجربته الفنية الخصبة مقولة ‘الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح’، وهو كثير الإنتماء إلى الضوء الذي يحافظ على الحركات الملونة ليزرع اسئلة محاطة بمحاولات إعادة نفسه من جديد.

يقول أحمد الصوفي (حمص 1969) في إحدى مقابلاته : “الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح”، وهذا القول يكاد ينبض في…

عبد الستار نورعلي

في الليلْ

حينَ يداهمُ رأسَك صراعُ الذِّكرياتْ

على فراشٍ مارجٍ مِنْ قلق

تُلقي رحالَكَ

في ميدانِ صراعِ الأضداد

حيث السَّاحةُ حُبلى

بالمعاركِ الدُّونكيشوتيةِ المطبوخة

على نارٍ هادئة

في طواحينِ الهواء التي تدور

بالمقلوبِ (المطلوبِ إثباتُه)

فيومَ قامَ الرَّفيقُ ماوتسي تونغ

بثورةِ الألفِ ميل

كانتِ الإمبرياليةُ نمراً..

(مِنْ ورق)

بأسنانٍ مِنَ القنابلِ الذَّرية

ومخالبَ مِنَ الاستراتيجياتِ الدِّيناميتية

المدروسةِ بعنايةٍ مُركَّزَة،

وليستْ بالعنايةِ المُركَّزة

كما اليوم،

على طاولته (الرفيق ماو) اليوم

يلعبُ بنا الشّطرنج

فوق ذرى…