الدرس.. قصة قصيرة

ماهين شيخاني

 

دخل الأستاذ القاعة في وقارٍ لا يخلو من تعب، يحمل حقيبته تحت ذراعه كأنه يحمل الوطن بأكمله. وقف لحظة أمام السبورة، أطلق نظره بين الوجوه النائمة على مقاعد الدراسة، ثم قال بصوت خافت:

– أعزائي الطلّاب، أسعدتم صباحًا.

لا أحد أجابه، لكن رؤوسهم تحركت كأنها تعترف بوجوده على مضض.

تنحنح، وبدأ يخط بكلمات الطباشير على السبورة عنوانًا عريضًا:

“دور رب الأسرة في بناء المجتمع”

ثم استدار إليهم:

– قبل أن نبدأ، دعونا نُفكّر قليلًا… من يُربينا؟ من يَسهر على راحتنا؟ من يُوفّر لنا لقمة العيش، والدفء، والتعليم؟

سكت لحظة، ثم تابع:

– إنهم آباؤنا وأمهاتنا… يَكدّون، يَجوعون لنشبع، يَسهرون لننام، يَتعبون لنرتاح. ومع ذلك، لا يُقدّر الكثير من الأبناء هذا العطاء.

هزّ الطلاب رؤوسهم. بعضهم عن قناعة، وبعضهم عن ملل، وآخرون عن خوفٍ من عين الأستاذ.

رفع الأستاذ ناظريه، وقال:

– من منكم يُمكنه أن يُعطينا حكمة أو مثلًا عن برّ الوالدين؟

سرت همهمات خفيفة في الصف. رفع “نُصرة” إصبعه ببطء، كأنّه متردد.

– تفضل يا نصرة…

قال الطالب بصوتٍ خجول:

– تذكرت قولًا يا أستاذ: “قلبي على ولدي، وقلب ولدي على الحجر”.

ابتسم الأستاذ، وأومأ برأسه:

– أحسنت… هذا مثلٌ شعبيٌّ صادق، يصوّر التباعد بين جيلين… الأب يُحب، والابن يُفرّط.

 

سكت قليلًا، ثم أردف:

– من لديه حكمة أخرى؟

رفع “آزاد” يده بثقة، فنظر إليه الأستاذ مشجعًا.

لكن آزاد، بدلًا من أن يواجه الأستاذ، التفت نحو نصرة وقال:

– قلبي على الأخوة… وقلب أخي على الجبهة.

ضحك معظم الصف، كأن الضحكة هي الرد الوحيد الممكن.

همس أحدهم في الخلف:

– أخوة التراب…

تبدّلت ملامح وجه الأستاذ. عبس، وأعاد الطباشير إلى علبته ببطء، كأنه يُعيد ترتيب أفكاره.

– هذا ليس وقت المزاح، آزاد. نحن نتحدث عن الأسرة، لا عن الشعارات.

لكن أحد الطلاب تمتم:

– ومين قال إنو في فرق؟

لم يسمعه الأستاذ… أو ربما سمع، واختار ألا يسمع.

صمت الصف.

وراحت الكلمات البيضاء على السبورة تذوب شيئًا فشيئًا مع الضوء الرماديّ الذي دخل من النوافذ.

الدرس – مشهد 2

في اليوم التالي، عاد الأستاذ إلى الصف، لكن هذه المرة كان صوته أكثر خشونة، ووجهه مشدودًا كأن شيئًا ثقيلًا يضغط على صدره.

– صباح الخير… افتحوا دفاتركم، نكتب موضوع تعبير بعنوان: “ما الذي يفرّق بيننا؟”.

تبادل الطلاب نظرات سريعة. السؤال كان غريبًا… مربكًا.

“هل يُعقل أن يُطرح مثل هذا الموضوع… علنًا؟”

كتبوا العنوان. ثم بدأوا يحركون أقلامهم بخجل.

بعضهم كتب كلمات عامة عن الفقر والجهل، وآخرون قالوا: “الفتن، الإعلام، المؤامرات”…

لكن آزاد ظل ينظر للصفحة البيضاء أمامه، كأنها مرآة.

رفع رأسه فجأة، ثم قال بصوتٍ خافت:

– أستاذ، ممكن أشارك شفويًا؟

نظر إليه الأستاذ طويلاً. ساد الصمت.

– تفضل.

وقف آزاد، وقال:

 

– اللي يفرّق بيننا… إنو من إحنا صغار، بنخاف نقول الحقيقة.

ارتفعت بعض الرؤوس. وأخفض البعض الآخر أنظاره. تابع:

– بنخاف نقول اسم طائفتنا، بنخاف نحكي عن أصلنا، حتى اسم القرية أحيانًا بنخجل فيه.

قالها وأعاد الجلوس.

لم يُعلق الأستاذ مباشرة. مرّت لحظة كأن الزمن توقف.

ثم قال:

– شكراً… اجلسوا جميعًا.

أغلق دفتره، ونظر إليهم:

– أنا من قرية صغيرة، تعرفونها، ولا داعي لأذكرها. فيها مسجد واحد، وكنيسة واحدة، ومقام صغير يقولون إنه لرجل صالح. لا يهمني من صلّى فيه، لكنّي أتذكر أن جدّي كان يُنظف سجاد المسجد والكنيسة كل خميس… بنفس اليدين.

صمت قليلاً، ثم أردف:

– لم نسأله لماذا… ولم يقل لنا يوماً من نحن. لكن كنّا نأكل مع الجميع، ونبكي على موتاهم، ويفرحون لنا إذا تزوجنا.

هنا رفعت “ريما” إصبعها. كانت طالبة هادئة، لا تتكلم كثيراً.

– أستاذ… بس هذا ما عاد يصير اليوم.

ابتسم الأستاذ، وفي عينيه شجن عميق:

– وأنا أكتب هذا الدرس اليوم، لأني أُدرك ذلك تماماً…

رنّ الجرس فجأة، قاطعًا الحديث كأنه أنقذ الجميع من الاعتراف الأخير.

خرجوا بصمت.

لكن آزاد، قبل أن يخطو خارج الصف، التفت للأستاذ وقال:

– أستاذ… لو سألك حدا بكرا، شو كنت عم تعلّمنا… شو رح تقول؟

ابتسم الأستاذ وأجاب:

الدرس – مشهد 3: همس بعد الجرس

خرج الطلّاب من الصف بصمت، لكن الوجوه لم تكن عادية… كانت مشدودة كأن كلّ واحد خرج وفي داخله سؤال لا يجرؤ على كتابته في الدفتر.

في الزاوية الخلفية من ساحة المدرسة، تجمّع آزاد، ونُصرة، وريما قرب كشك البائع العجوز. كانوا يتكلمون ببطء، كأن الهواء نفسه يضع عليهم حواجز.

– شفتو الأستاذ؟ همس نصرة.

– ما عاد نفسه… كأنو عم يختبرنا، بس بدون ما يقول.

قالت ريما وهي تنظر حولها بتوجّس:

– لما قال: “أُعلّمكم كيف لا تكتبوا الحقيقة”… حسّيت إنو عم يقول: الحقيقة موجودة، بس لا تقربوها.

تنحنح رجل أربعيني قربهم، وأشعل سيجارته ببطء. توقّفوا عن الكلام فوراً.

ابتسم لهم وقال:

– طلاب؟… الله يعطيكن العافية.

ابتعدوا دون رد، كأنهم متفقون على قاعدة واحدة:

– لا نثق بأحد لا نعرفه.

الدرس مشهد 4: لقاء في غرفة المدير

في مساء اليوم نفسه، كان الأستاذ جالسًا على كرسي خشبي في غرفة المدير. أمامه فنجان قهوة لم يذقه، وجريدة قديمة فوق الطاولة.

دخل المدير أخيرًا، وبيده ورقة.

– أستاذ، شو كنت عم تدرّس اليوم؟

رفع الأستاذ حاجبه:

**– “دور رب الأسرة في بناء المجتمع”… حسب المنهاج.

– وفي موضوع التعبير؟

– كتبت العنوان عالسبورة: “ما الذي يفرّق بيننا؟”

– والطلاب؟

– كتبوا، وتكلموا، وضحكوا… وبعضهم فهم الدرس أكثر من اللازم.**

ابتسم المدير بفتور:

– إجا تبليغ… بيقول إنك تطرح مواضيع “حساسة”.

نهض الأستاذ، تناول معطفه بهدوء وقال:

– كل ما هو حقيقي… يُصبح حسّاسًا.

وقبل أن يغادر، التفت وسأل:

– تفتكر… إذا علمتهم أن لا يكتبوا الحقيقة، بس جعلتهم يشعرون بها… أكون خرّبتهم؟

لم يُجب المدير. فقط نظر نحو الورقة في يده، كأنها تحترق ببطء.

مشهد 5: بعد أسبوع… إشاعة

في زقاق ضيّق قرب المكتبة، كان نصرة يتحدّث مع مجموعة من الطلاب:

– سمعتو؟ الأستاذ نُقِل… فجأة، بدون وداع. قالوا طلب نقل. بس… ما حدا صدّق.

قال آزاد:

– ما حدا بينقل بنفسه بهالوقت من السنة…

صمت، ثم أضاف:

– أحيانًا، الدروس مش بس لحتى ننجح بالفحص… أحيانًا بتنزرع فينا متل بذور. ما بتطلع فورًا… بس بتكبر لوحدها.

قالت ريما:

– السؤال… هل منحق نرويه؟

ابتسم آزاد، ونظر نحو نافذة الصفّ الفارغة:

– إذا ما قدرنا نحكي… نكتب. وإذا ما قدرنا نكتب… نحفظ. وإذا حتى الذاكرة صارت ممنوعة… نزرعها بالعيون

–           انتهت  –

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالوهاب پيراني

 

تعد نضال سواس إحدى الوجوه السورية الفنية المبدعة التي رسمت بجرأة ملامح الألم والأمل في آن واحد، المعتزة بجذورها، حيث ولدت وعاشت ورسمت وكتبت، وازدادت قلقاً في ظل معاناة الوطن من الحرب والدمار، التي تركت بصمات لا تمحى ،وارهقت ذاكراتها البصرية واللونية، وحملتها الظروف إلى دروب الاغتراب، حيث فرض الواقع البارد للصقيع الاجتماعي…

غريب ملا زلال

 

هذه الاغنية أنت

هذا الحضور الجميل

مع اذان الحب أنت

هذا الكرنفال العاشق أنت

هذا الجمال المقيم

بين رموشك أنت

هذا الوصول

الى مطار الرب أنت

هذا المغني الواقع

في فسحة قلبك أنت

هذا العازف البوهيمي أنت

هذا

العاشق

المعني

بك

أنت

أنيس ميرو

 

صدرت المجموعة الشعرية ” هيلين ” للشاعر عصمت شاهين الدوسكي تضمنت ( 36 ) قصيدة “180 ” صفحة صمم الغلاف الفنان الكبير نزار البزاز كتبت المقدمة الأديبة الجزائرية المبدعة الدكتورة زينب لوت المعروفة بكتاباتها المتميزة ودراساتها الراقية.

“” القارئ للديوان يكتشف خبرة الشاعر ( عصمت شاهين الدوسكي) في الكتابة واتساعه في تصوير الأشياء وتحرير…

خالد حسو

الأصيل هو ذلك الإنسان الذي لا تفتنه المظاهر، ولا تغيّره المغريات، ولا تُبدّله المسافات، يبقى ثابتًا على مبادئه، راسخًا في قيمه، معتزًا بأصله وانتمائه، مهما تغيّرت الأوطان، أو تبدّلت الأحوال من حوله.
فهو لا ينسى جذوره، ولا يتنكّر لتاريخه، ولا يفرّط في تراثه مهما اشتدّت عليه المحن، أو ضاق به العيش، أو باغتته الحياة…