هوشنك أوسي
كعادتهِ، سواء أكانَ في المنزل أم في المقهى أم في زيارةِ صديق، بعد انتهائهِ من شربِ فنجان القهوة، يَقلبُهُ، تاركًا خيالَ البُنِّ المترسِّبِ في القعرِ البدءَ برسمِ الطلاسم والأشكال. نادرًا ما يُصادفُ قارئةَ فنجان هاويةً أو محترفةً تقرأُ تلكَ الخربشاتِ والرسوماتِ الاعتباطيّة، مُعتمدةً على معجمِ تأويلاتِها، وغالبًا ما يتركُ فنجانَهُ مقلوبًا حتّى من دونِ إلقاءِ نظرةٍ عابرةٍ على التكويناتِ المتشكّلة داخلهُ.
كُلَّما رآهُ أحدهم أو إحداهنَّ يفعلُ ذلكَ، يُخمِّنُ أنَّه مهووسٌ بقراءةِ الفال لمعرفة طالعه. يبتسمُ البعض له، ومن غير المعروف أهيَ ابتسامةُ إعجابٍ أم استغرابٍ أم سُخريةٍ ممّا يفعلهُ، ظنًّا منهم أنَّه مِن المؤمنين بالتنجيم والسحرِ والشعوذةِ، لكن هيئه الأنيقة لا توحي بذلك!
في إحدى مطاراتِ تركيا، دخلَ مقهًى وطلب فنجان “قهوة تركي”. فاتنةٌ من حسناواتِ الأناضول، لبَّت طلبَهُ ووضعتهُ على الطاولة مع رشقةِ ابتساماتٍ عذبةٍ كالتي تَمنحُها مضيفاتُ الطيران للمسافرين.
سُرَّ بها، وبادلها الابتسامةَ، مع المبالغة في الشكر والاحترام. الحقُّ أنَّه لم يبالغ، هذه الطريقة في أصولِ التعاملِ مع النساء بخاصَّة منهنَّ الجميلات، هي من عاداتهِ وتقاليده. فضلاً عن ذلك، سِحرُ النادلةِ التركية يشفعُ له الزيادة من ثنائهِ عليها وإعجابهِ بها واحترامه لها.
بدأ رحلتَهِ والقهوة، مع قراءةِ روايةٍ لكاتبةِ عربية؛ رشفةٌ من الفجان، ورشفةٌ من عيني تلك التركيةِ وجمالِ وجهها وتضاريس جسدها.
كانت تعرف أنَّه يختلسُ النظرات إليها، ولم يزعجها ذلك، بالعكس تمامًا، أشعرتها اختلاساتهُ بالغبطةِ والحبور. هذا النوع من الاختلاسِ جميل ومُرحَّب به.
كأيّ رجلٍ نسونجي، توقَّعت مِنهُ أن يفتحَ معها أحاديثَ جانبيةٍ تكونُ شرفةً أو مدخلاً للتعارف، ولم تتوقّع قطّ أن يَقلِبَ ذلك الغريبُ الأنيقُ فنجانهُ على الطبقِ الصغير الموضوع تحته. فاجأها الأمرُ وأدهشها أيضًا. حوَّلَ الفرحُ قلبها الصغير إلى حلقة رقصٍ عقدتها قبيلةٌ بدائيّةٌ تقرعُ الطبول وسطَ الغاباتِ البِكر، لاكتشافِها عابرًا يُشبهها، يُحبُّ قراءةَ الفال. رُبَّما لم تورثهُ أمُّهُ أو جَدَّتُهُ فنونَ ومهاراتِ قراءةِ الفنجان، مِثلها. “لكن، لو لم يكن مقتنعًا بذلك، فلماذا قلبَ الفنجان إذًا؟!” سألت نفسها.
يبدو أنَّه ممسوسٌ بالغرور أيضًا. قرَّرت أن تبادرَ هي في مفاتحته بالحديث، وتقترح عليه قراءةَ فنجانه. خَمَّنت الموافقةَ والردَّ الإيجابي منه. اشغلها دخولُ بعضِ الزبائن إلى المقهى وضرورةُ تسجيل طلباتهم وتلبيتها بسرعة.
فجأةً ألقت نظرة خاطفة في اتجاه الطاولةِ التي كان يجلس إليها، وراعها رؤية كرسيهِ فارغًا! “أين ذهب؟ وكيف؟” سألت نفسها والذهول يتقاذفها ككرةِ طاولة. داهمها الحزن كما يداهم البوليس مكانًا لإلقاءِ القبض على مجرمٍ هاربٍ من وجه العدالة. حزنت كأنَّها فقدت شخصًا عزيزًا تعرفه في حياة سابقة.
كانتشالِ إربٍ من بين الأنقاض، رفعت فنجانه بيدٍ كليلةٍ مرتخيةٍ بطيئةٍ حذرةٍ وخائفة، نظرت إلى تفاصيله، صعقها وأفزعها ما قرأته:
سيقضي في حادثِ تحطُّمِ طائرة، لن يتمَّ العثورُ على جثّتهِ، سيحزنُ عليه أحبّاؤهُ كثيرًا، وسينسونهُ بسرعة، سيفرحُ أعداؤهُ برحيلهِ كثيرًا، وسيتذكّرونه دائمًا. الطائرةُ التي استقلَّها، تمرُّ من فوق بلادٍ موبوءةٍ بالحروب. قرأتْ حرفين من اسمه؛ HO.
حتّى من دون استئذانِ زملائها في العمل، خلعت مئزر الشُّغلِ وهرعت كالأمِ المجنونةِ الباحثةِ عن طفلها الضائع، تبحثُ عنهُ خارجَ المقهى، وداخل المطاعم والمقاهي الأخرى، وفي الممرّات وصالات المغادرة، كي تحذِّرَهُ من رحلته، وتقنعهُ بالعدول عنها، والسفر بوسيلة أخرى.
عادت القهقرى إلى عملها كالعائدة مهزومةً من حربٍ لم تكن حربَها. صارت تتابع الأخبار، في انتظار أن يُفجعها خبرُ سقوطِ طائرةٍ ما غادرت مطار “إزمير” إلى وجهةٍ لا تعرفها. مضى يوم، اثنان، ثلاثة والقلق ينهشها والخشية من الفجيعة تلوكها. فجأةً قرأت في الشريط الإخباري خبرًا عاجلاً يقول؛ سقوط طائرة مدنيَّةٍ فوق لبنان بصاروخ، غير معروف مصدره، وأيُّ الأطراف المتحاربة أطلقته.
كأنّها تحت تأثيرِ مُخدِّر، لم تتمالك نفسها، الرعودُ تضربُ مفاصلها والقشعريرةُ تجتاحُ جسدها، وضعت يدها على فمها، وقالت لنفسها: “لا شك أنَّه كان على متنها”، وأجهشت ببكاءٍ عديمُ الدمعِ والنهاية.
09/09/2024
على متن الطائرة المتّجهة من “دياربكر” إلى “إزمير” في تركيا