الفنان الرائد و شيخ فناني خانقين بكردستان العراق صباح محي الدين الزهاوي يترجل بصمت

غريب ملا زلال
كلما رحل عنا مبدع ما ، مهما كان الغصن الذي يغرد عليه ، و مهما كان المجال الذي يبدع فيه ، إن كان أديباً ، شاعراً او قاصاً ، أو روائياً ، أو إن كان سينمائياً و مسرحياً ، أو إن كان موسيقياً ، و مغنياً ، أو إن كان  فناناً تشكيلياً ، أو نحاتاً ، .. إلخ ، كلما أحسسنا بأننا خسرنا جزءاً مهماً من ثروتنا الثقافية ، الوطنية الحقة ، فهؤلاء كنوزنا على هذه الأرض لا يجب أن نفرط بهم ، لا هم أحياء يعيشون بيننا ، و لا حين يتركوننا نتخبط في أوحال أوجاعنا ، و هم يرحلون بعيدين عنا ، إلى عالم أكثر حباً ، و أمناً ، و انسانية ، إلى عالم منسوج بخيوط من النور و الضوء ، أقول هذا الكلام و أنا أقرأ نبأ رحيل الفنان الرائد و شيخ الفنانين التشكيليين في خانقين بكردستان العراق ، كان ذلك يوم 28-01-2025 بعد صراع طويل مع المرض ، عن عمر ناهز الثانية و الثمانين عاماً ، رحل بصمت الآلهة ، موغلاً في ذاكرتنا المدفونة في أعمق طبقات التاريخ ليوقظها و يبعث الروح فيها من جديد ، و يعيدها إلى صفوف الأصوات النابضة بالحياة و بشظاياها المجازية في مواجهة النسيان ، رحل الزهاوي بصمت موثوق بذاته و بكل طاقاته الإبداعية التي راح يسخرها بكل ما أوتي بها من حب و شغف مثقل بالأحداث و الوقائع التي حركها من هيئات ثابتة إلى مسارات طويلة دائمة التحرك ، فهو سعى بكل نبضات قلبه ، و بكل شظايا ذاكرته كي يكون شاهداً ، و وفياً للإبداع الذي يوثق و يؤرخ الجمال لوطنه ، لا الذي كان ، بل الذي سيكون ، حقاً كان أرشيفاً ، و خزاناً ثقافياً لا لخانقين ، و لكردستان ، بل لعموم العراق ، فهل سنجد من ينصف مبدعينا الحقيقين ، فيجمعون أعمالهم و مقتنياتهم في متاحف خاصة بهم ، أو عامة ، هل سنجد متحفاً ، أو أي صرح ثقافي بأسمائهم ، أو حتى شارعاً يحمل نفسهم و روحهم يعرف الآخرين بهم و بأنهم فعلاً كنوزنا في هذه الأرض ، و بأنهم خالدون بيننا ، بأرواحهم ، بأعمالهم ، هذا ما نتمناه و ما نأمل به .
كتبت عنه قبل سنوات مادة بعنوان
“صباح محي الدين الزهاوي
مقاطعه اللونية سيمفونيات كردستانية  ” تحدثت فيها عن تجربته المهمة و أشرت إلى تمتعه بخصوصية عالية مكنته من الدنو من عوالم كردستان و طبيعتها ، و من ملامح إنسانها و تراثه من عادات و تقاليد قلت فيها :” بداياتي الفنية كانت مُذ كنت تلميذاً في المرحلة الإبتدائية من عام 1950-1956 حيث كنت أساعد جدي و أعمامي في صناعة النجارة و في صناعة صناديق الملابس للعشائر الكردية في خانقين و قراها و كنت أقوم برسم واجهة الصناديق دولاب كردي بصور فرس الرسول أو بالمناظر و الزهور ” بهذه العفوية الشفافة يتحدث الفنان صباح الزهاوي ( 1943 ) عن خطواته الأولى والتي عليها اتكأ ليشق طريقه في الحقل الفني الوعر ، فالذي تكون هذه بدايته و هو ما يزال طفلاً ، لا بد أن يصادق مساحة يصوغها بنفسه ، و يوقظ القابع في داخله ليروي عنه سيرته و يقدمه للملأ ، و تتحول حكايته إلى شاهدة تسرد صوته العادي بنبرة غير عادية ، تسرد كل مرورياته و مروياته بلغة تكشف عن طبيعة مفرداته ، بلغة تحدد موقعه في المشهد التشكيلي العراقي على نحو عام و الكردستاني على نحو خاص ، و تحدد رؤيته في الحياة و موقفه منها ، بلغة بها يرسم المسافة الفاصلة بينه و بين عتبات الآخرين .
الزهاوي يلجأ كأبناء جيله إلى الطبيعة ، كمنفس لأحاسيسه و كحامل لرؤاه ، فهو يعتمد على التنوع المستمر في معالجاته التجريبية ، و لهذا ينجز بالبحث عن المألوف و العمل على تجاوزها ، فما يشتغل عليه يأتيه من الخارج عبر إلتقاطه لبؤر جمالية و القبض عليها ، و عدم تركها ملفوفة في قماطها ، بل لفظ القماط عنها ، و رميها إلى الداخل ، حيث الدرب الذي سيشرع فيه الزهاوي بصحبة ألوانه و ترشيدها نحو سرد مدينته ( خانقين ) ، أزقتها ، جسرها ، ناسها ، تاريخها ، تراثها ، بيوتها ، جبالها …. إلخ ، و هو من موقعه هذا لا يسمح لأي إضطراب أن ينتشر في عمق نتاجه ، بل يجمع من التأملات ما تيسر له ، هذه التأملات التي ستكون بدورها رنيناً لمقاصده غير المحدودة و التي سيميل بها نحو المغايرة و الفعل المتعدد بتضافر إنتاجه و هو يعيدها إلى سياقها الخاص ، إلى سياقه هو ، السياق الذي سينحسر نحو  سلسلة محاكاته للطبيعة في أبعد حالات إختزالها ، و محاكاته للتاريخ و التراث في أعذب إنتشائها ، فالزهاوي ينتمي إلى الطين الصاعق لجذور حكاياته القديمة ، و لرائحة عالمه الطفولي المليء بالأساطير ، فهو يجمع بينهما ضمن رموز هي وليدة واقعه ، فكل لمساته تحرض ذاكرته لتعيده إلى طبيعة البدايات في وهجها ، و في تفاعلاتها الحسية بخيوطها اللونية الحيوية ، الممزوجة بوعي بصري تحيي طقسه القديم مع أدواته في التعامل مع التراكمات الجمالية المستنبطة من القيمة الواقعية كحالة أبعد من حالة المفردات المرمية في الطبيعة ، و كم هي كثيرة و كثيفة  مقاطعه اللونية التي تجسد وعلى نحو كبير طبيعة كردستان و التراث الكردي ، فجمال كردستان ، بجبالها و سهولها و قوس قزحها ، كانت لا بد أن تشغل الزهاوي كثيراً ، كما شغلته بيوتها و ناسها بعاداتهم و تحركاتهم اليومية البسيطة كأرواحهم ، لما فيها عناصر إنسانية عذبة و متعددة .
الزهاوي و بشحنات إنفعالية تعبيرية يسيطر على الحركة المستديمة في مساحاته الحاملة لخصوصية المكان ، و بواقعية تحمل في ثناياها كل ملامح المرحلة يكثف الزهاوي المعاني الإنسانية ليطلقها طيفاً لونياً تلخص مقاصده بتجلياتها ، و معالمه الفنية بنضوجها و بقدرتها على حشد تجربته و إبرازها .
الزهاوي و خوفاً من أن يجرح نفسه و تلك التي يشتغل عليها و ما تحمله من أحاسيس و مواضيع و موسيقا ، أقول خوفاً من كل ذلك لا يخرج الزهاوي عن السائد و المألوف ، بل يبقى أميناً على ما يؤكد إنتمائه إلى هذا المكان بحميميته المنبسطة أمامه و الممتدة للأفق العاري ، و بوجوهه التي تلمع ببريق شاحب و غامض تتلاشى في فضاءاته و هو يكتشف من قاع الوهم أن الجمال لا نهاية له ، بل و يرفع له تاجات الملاكات العاشقات جداً و هن يرقصن بجنونية على طريقة زوربا.
زوم صغير
من مواليد خانقين بكردستان العراق عام 1943 .
حصل على شهادة دار المعلمين الابتدائية، تربية فنية في بعقوبة عام 1963، وحينها يبدأ حياته المهنية كمعلم في القرى أولاً، وكمعلم في ثانوية الخانقين للبنين ثانياً .
تتلمذ على يد الفنان ناظم الجبوري الذي بقي تأثيره عليه لفترات طويلة، وبقي فناننا الراحل وفياً له ولجهوده لدرجة أنه يذكره في كل لقاء يتحدث فيه عن تجربته وبداياتها .
كان عضواً بارزاً في نقابة فناني ديالى، وفي نقابة فناني كردستان، حاز على الكثير من الجوائز التقديرية اعترافاً بإنجازاته وإسهاماته المهمة في تطوير الفن التشكيلي في خانقين على نحو خاص، وفي كردستان العراق وفي العراق على نحو عام، نعم حصل على أكثر من مائة شكر وتقدير، وعلى عشرة دروع، وعلى ثماني عشرة من الجوائز المتفرقة .
أنجز خلال مسيرته الفنية الطويلة أكثر من خمسمائة عمل فني، ما زالت أكثر من مائتين من الأعمال في حوزته، نائمة بين جوانح بيته ومرسمه.
قدم تسعة معارض فردية، وأكثر من مائة وعشر معارض مشتركة على امتداد العراق وكردستان العراق، في خانقين، وبعقوبة، والسليمانية، وكركوك، ورانية، وبغداد … إلخ
حقاً كان صباح محي الدين الزهاوي الذي ولد وكبر وأبدع في عائلة فنية، ليس آخرهم شقيقه الأصغر الفنان التشكيلي عباس الزهاوي، كان له، ولهم دورهم الكبير في الإرتقاء بالفن التشكيلي في خانقين وكردستان وفي عموم العراق، فكان صباح على نحو أخص تاريخاً لمدينته خانقين وأرشيفاً نقياً ومخلصاً لتراثها.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…