المدينة الأخرى.. حوارية المكان وصراع الأحلام الرواية كحلم معماري

جوان سلو

“المدينة الأخرى” للراحل خيري الذهبي ليست مجرد رواية، بل هي حوار فلسفي ممتد بين الإنسان وحلمه العمراني، بين المبدع وسلطة البيروقراطية، بين هندسة الأحلام وخرائط الواقع. صدرت الرواية عام 2023 عن دار ميزوبوتاميا في قامشلي . سوريا، لتقدم لنا نموذجاً مكثفاً للرواية الحوارية التي تتحول فيها المدينة من مجرد مكان إلى شخصية فاعلة تشارك في صنع المصائر.

* بنية الحوار وسياسة المكان

تعتمد الرواية على تقنية سردية جريئة حيث يختفي الراوي التقليدي لصالح حوارات حية تنبض بالصراع.

” – ظننت أن لك قوة تبني بها وتنشئ؛ تقيم أحلاماً، وتحيي خيالات للروح ولكنك نسيت، وهذه هي خطيئتك. إنك دون أن نريد لا شيء يا أدهم..

“- ولكن ماذا عن ريادتي، ماذا عن عبقريتي الهندسية كما دعوتموها دائماً، ماذا عن بطل الصحراء ومبدع المدن، وحال مشاكل الزحام والضوضاء والوساخة والتلوث؟).

“- أنسيت من أرسل بك إلى هناك، أنسيت من شملك بحمايته، أنسيت من دفع عنك رياح الخماسين وقرّ ليالي الصحراء، أنسيت من كف عنك أعشاب البوادي المتسللة؟ لا، يبدو أنك نسيت فانتفخت بالغرور، ورأيت أنك أنت أنت، ولذا فها نحن حينما عصيت وتجبرت نعيدك إلى الأرض، نعيدك إلى حيث بدأت لتعرف من يرفع ومن يضع”.

هذا المقطع التأسيسي يكشف عن الجدل المركزي في الرواية حيث صراع المبدع مع سلطة تملك مفاتيح المكان. الحوار هنا لا يقدم المعلومات بل يكشف عن طبقات من العلاقات السلطوية، حيث تتحول المدينة إلى ساحة صراع بين رؤيتين: رؤية المهندسين الحالمين، ورؤية النظام البيروقراطي الذي يريد السيطرة على الفضاء العمراني.

*المدينة كشخصية روائية

يصنع الذهبي من المدينة كائناً حياً ينمو ويتنفس عبر الحوار. المكان هنا ليس إطاراً جامداً بل كيان متحول ينتقل من حلم هندسي إلى واقع مشوه وشاهد على الصراع ويحمل آثار التجربة الإنسانية وهو محرك للأحداث ليؤثر في قرارات الشخصيات ومصائرها.

التقنية الحوارية تسمح للمكان بأن “يتحدث” من خلال تفاعل الشخصيات معه، كما في وصفهم لـ”أعشاب البوادي المتسللة” و”قرّ ليالي الصحراء”، مما يخلق شعوراً بأن البيئة نفسها طرف في الصراع.

*سردية الفساد وانهيار الأحلام

تحكي الرواية قصة مجموعة مهندسين يصطدم حلمهم ببناء مدينة مثالية بجدار الفساد الإداري. هنا يتحول الحوار إلى أداة كشف عن آليات الاستيلاء على الأحلام، فجاءت الحوارات المواجهة بين المبدعين والبيروقراطيين قوية، والمحادثات التي تكشف خيانة الموظف السابق عبر التبادلات الكلامية التي تعري آليات السطو على الأفكار.

*الذهبي يستخدم الاقتصاد اللغوي ببراعة، حيث يحمل كل حوار دلالات متعددة، من الصراع الطبقي إلى أزمة الإبداع في المجتمعات العربية.

*خيري الذهبي.. سارد المكان الدمشقي

يطلّ علينا روح الذهبي (1946-2022) من بين سطور الرواية كـ”سارد دمشق وسرّادها”، حيث يبرع في تحويل الجغرافيا إلى نسيج سردي حي ويعمل على توظيف الذاكرة المكانية كأداة سردية وخلق حوارية بين الماضي العمراني والحاضر المأزوم، حيث تظهر براعة الذهبي في جعل المدينة الدمشقية – رغم غياب اسمها الصريح – حاضرة في كل تفاصيل الرواية، من خلال الإحالات إلى العمارة التقليدية وصراعها مع الحداثة.

*حوارية الوجود والعمران

“المدينة الأخرى” تقدم لنا نموذجاً راقياً للرواية الحوارية التي تتحول فيها الأحلام المعمارية إلى كائنات حية تتكلم عبر صراع الخطابات بين لغة الإبداع ولغة السلطة، وشعرية المكان حيث تصبح العمارة لغة تعبيرية، ودرامية الحوار التي تحول النقاشات الفنية إلى ملحمة إنسانية. هذه الرواية ليست مجرد سرد لأزمة مهندسين، بل هي مرثية للحلم الإنساني في مواجهة آلات البيروقراطية، وصورة عن إمكانية تحول الرواية نفسها إلى مدينة تخيلية نعيش بين أسوارها اللغوية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أحمد جويل

طفل تاه في قلبي
يبحث عن أرجوحة
صنعت له أمه
هزازة من أكياس الخيش القديمة……
ومصاصة حليب فارغة
مدهونة بالأبيض
لتسكت جوعه بكذبة بيضاء
……………
شبل بعمر الورد
يخرج كل يوم …..
حاملا كتبه المدرسية
في كيس من النايلون
كان يجمع فيه سكاكرالعيد
ويحمل بيده الأخرى
علب الكبريت…..
يبيعها في الطريق
ليشتري قلم الرصاص
وربطة خبز لأمه الأرملة
………
شاب في مقتبل العمر
بدر جميل….
يترك المدارس ..
بحثا…

مكرمة العيسى

أنا من تلك القرية الصغيرة التي بالكاد تُرى كنقطة على خريطة. تلك النقطة، أحملها معي أينما ذهبت، أطويها في قلبي، وأتأمل تفاصيلها بحب عميق.

أومريك، النقطة في الخريطة، والكبيرة بأهلها وأصلها وعشيرتها. بناها الحاجي سليماني حسن العيسى، أحد أبرز وجهاء العشيرة، ويسكنها اليوم أحفاده وأبناء عمومته من آل أحمد العيسى.

ومن الشخصيات البارزة في مملكة أومريك،…

عبد الستار نورعلي

في دُجى الليلِ العميقْ:

“سألني الليلْ:

بتسهرْ لِيهْ؟”

قلْتُ:

أنتَ نديمي الَّذي يُوفِّى ويُكفِّى،

ويصفِّي..

منَ الشَّوائبِ العالقة..

بقفصِ صدري المليءِ بالذِّكرياتِ الَّتي

تعبرُ أفْقَ خيالي..

بارقاتٍ

لامعاتٍ

تَخرجُ مِنْ قُمْقُمِها،

ففيكَ، أيُّها الليلُ الَّذي لا تنجلي،

أُلقي صَخرةَ النَّهارِ عنْ كاهلي،

وأرفعُ صخرةَ الأيامِ والكتبِ والأقلامِ

والأحلامِ،

والكلامِ غيرِ المُباح،

وفي الحالتين أشهقُ..

وأتحسرُ

وأزفرُ..

زفراتٍ حرَّى،

تسمعُها أنتَ، وتعي،

فما فاتَ لمْ يفُتْ،

وما هو آتٍ آتٍ لا ريبَ فيهِ!

وأشتكي لكَ ولصمتِكَ المهيبِ؛

فأنتَ الشِّفاءُ،

وأنتَ…

عِصْمَتْ شَاهِين الدُّوسَكِي

بَدٍلْ لَا تَتَبَدَّلْ

بَدٍلْ اسْتَقِرْ لَا تَنْفَعِلْ

فَالْأَدَبُ أَنْ تَتَحَكَّمَ

فِي الْمَوَاقِفِ لَا تَتَعَجَّلْ

***

الْحَيَاةُ لَيْسَتْ مَنَاصِبْ

وَلَا كُرْسِيٌّ لَكَ مُنَاسِبْ

<p dir="RTL"...