الهيمنة الأشد استعصاءً

ابراهيم البليهي
المعضلة البشرية الأشد استعصاء وصلابةً والأقوى هيمنة والأكثر استيلاء على العقول والعواطف هي الأنساق الثقافية التي تتوارثها الأمم  إنها تملك ولا تُملك وتمارس هيمنتها المطلقة على العقول  بمنتهى التلقائية والخفاء والانسياب حيث تتبرمج  كل الأجيال من كل الأمم بما تبرمج به أسلافها إن التطبُّع بالأنساق الثقافية المتوارثة ينساب تلقائيا وبشكل حتمي من كل جيل سابق إلى كل جيل لاحق وبهذا الانسياب التلقائي  الحتمي يستمر التبرمُج جيلا بعد جيل حتى بعد أن ازدهرت الأفكار المضيئة والمعارف الموضوعية فإن التبرمج التلقائي بقي مهيمنًا بشكل حاد وعميق ومطلق …..
حتى الأفراد من ذوي العبقرية الذين تنتابهم الشكوك  في بعض ما يقوله النسق الثقافي الذي تطبَّعوا به؛ لا يستطيعون التوفيق بينه وبين حقائق العلم فيتعذر عليهم الخلاص فقد عاش الفيلسوف الفرنسي العبقري بليز باسكال يصارع الشكوك الحادة فلما لم يسعفه المنطق لتبديد شكوكه الحادة أعلن أن القلب هو الأقدر على النفاذ إلى الحقائق. إن ما تطبَّع به في طفولته كان يفرض هيمنته بكل قوة ويضغط عليه وكانت الشكوك تضغط من الجانب الآخر وحَسَم الأمر بأن العقل والمنطق محكومان بما يقوله القلب أي بما يمليه ويفرضه  النسق الثقافي الذي تبرمج به لقد أرضى نفسه ظاهريا لكنه عقله بقي يضغط عليه فمات مبكرًا بسبب المعاناةُ التي اعتصرت صحته وجففت موارد الحياة في نفسه ……
ومرَّ بنفس المعاناة الفيلسوف الدانماركي كيركجارد لقد أنهكته الشكوك واعتصرته المعاناة فعاش حياته القصيرة في ألمٍ ممض ومات مبكرًا وقد خلَّف بعده فلسفة تفيض بالمرارة والآلام والانهاك أمام ضغط الشكوك فلم يستطع الخلاص من شكوكه فأوهم نفسه بأن الحقيقة تكمن فيما تطبَّع به ……
إن كثيرا من الأفراد من ذوي العبقرية من كل الأمم قد عانوا صراعات حادة فهم قد تطبعوا بأنساق ثقافية تتضمن الكثير مما لا يرتضيه العقل والمنطق فيبقون في صراعات مريرة لأن ما تطبعوا به يكون مستحكمًا لكن العلوم الموضوعية والمنطق العلمي والتفكير المحض كلها تجعل من الصعب تقبُّل بعض ما تم التطبُّع لكن التطبع يبقى مهيمنًا وضاغطًا بقوة وصلابة وحِدَّة قاطعة فيبقون يصارعون الشكوك الحادة الضاغطة فلو تم إجراء مسحٍ شامل على مستوى كل الأمم لظهر بأن القسم الأكبر من الكتب التي أخرجتها المطابع هي دفاعات مستميتة عن الأنساق الثقافية عند مختلف الأمم وتأكيد لأهلية وصحة وسلامة وأحقية ما تم التطبع به فالسوابق عوائق إن الأنساق الثقافية المتوارثة ذات صلابة حادة وقاطعة وهي تُمْسِك بالأجيال بقوة غير قابلة للكسر فقبضتها شديدة القوة بشكل يفوق التصور ……….

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

عطستْ عشبة في نومها
فتنبهتْ لها صخرة في أقاصي الأرض
ترددَ صداها في قرن أيل متوَّج بسهله
حدث زلزالٌ في رقعة نائية عن صخب العالم
صرخ المحيط القطبي: ماذا سيجري بعد ؟

* * * *

غازل يعسوبٌ يعسوبته
أغميَ على صوفيّ مخضرم في الجوار
شهق ورق على وشك نفاد أنفاسه الأخيرة
اشتعل فحمٌ حجري على مبعدة كافية
أطلق نمر فتي لساناً دفيئاً لاحتضان…

إبراهيم محمود

يمارس الشّعر حضوره الفعلي ضد الذاكرة، فالذاكرة صنمية، والشعر ناسف الصنمية، رغم أن الذاكرة هذه مسكنها، لكن بمثابة ” حديقة الحيوان ” التي تزعم أنها تحمي حيوانها من الانقراض، سوى أن جغرافيتها المكانية، ومساحتها المسوَّرة، وكيفية التعامل معها، تعريض تدريجي لها للانقراض، وهو إجراء غبي يترجم مدى أهلية الإنسان للتدجين ونسيان أنه أصلاً كائن…

ميران أحمد

في عالم يموج بالصراعات، تصبح الحكايات مرآة تعكس آلام الإنسان وآماله. الأدب، بما يحمله من رمزية وعمق، لا يُخبرنا فقط عن الماضي أو الخيال، بل يفتح لنا نوافذ لفهم الحاضر. ففي رواية «مائة عام من العزلة»، للروائي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز نعيش في ماكوندو، حيث تذوب الحدود بين الواقعية والسحرية، وتتصارع الشخصيات مع الزمن…

عبدالرزاق عبدالرحمن

الجهاتُ مبهمة،
لا شيء واضحٌ سوى أنَّ الوقت شتاء.
البردُ إبرٌ توخز وجهَك المصفر،
ولا أحدَ فوق هذا الجسرِ الموحش سواك،
وأوراقُ شجرٍ متناثرة كأفكارك هنا وهناك.

لا رفيقَ لكَ في هذا الدربِ الطويل
سوى تبغِك المبللِ وهذا الحملِ الثقيل.
الجهاتُ مبهمة،
ولا شيء واضحٌ سوى أنَّ الوقت مساء.

إلى أين أنت ذاهبٌ، أيها الكردي؟
ستضيع.
لا شيء يلوحُ بخيرٍ في الأفق،
فعدْ بحقيبةِ خيباتِك مهما…