الوضعية المنطقية

ابراهيم البليهي

 

في النصف الأول من القرن العشرين كادت الوضعية المنطقية أن تسود مجال العلم والتفكير فأحدثت اختناقًا في التفكير وارتباكا شديدًا في الفلسفة فقد ضيَّقت مجال المعرفة الموضوعية وحصرته بما يمكن ملاحظته واختباره وتجربته وقياسه وهاجمتْ الميتافيزيقا وكل المعارف التي لا تخضع للاختبار والقياس وكان لها نتائج مدمرة فقد همَّشت دور العقل وسفَّهت التأمل وضيَّقت مجالات التفكير وهزَّت الثقة بكل ما كان محل التبجيل في المجال الفلسفي والمعرفة وكان من نتائجها السلبية ظهور الاتجاه السلوكي في علم النفس ومع أن هذا الاتجاه يُعتبر امتدادًا لاكتشافات العالم إيفان بافلوف الذي نال جائزة نوبل لاكتشافه المنعكس الشرطي لكن السلوكيين أفرطوا في تطبيق هذه الخاصية في الأحياء فجعلوا الحياة الإنسانية برمَّتها ليست سوى نتاج الفعل ورد الفعل؛ فالإنسان في تفكيره وسلوكه هو في نظرهم ليس أكثر من مؤثِّر واستجابة وهمَّشوا فاعليات العقل تهميشًا تسبب في إعاقة النشاط العلمي في دراسة الدماغ والعقل وبذلك تعرقلت دراسات العقل والدماغ نصف قرن فضاعت عقود من تجميد العلم ……

وكان من النتائج السيئة للوضعية أيضا هيمنة ما يُسَمَّى المنعطف اللغوي حيث تحولت الفلسفة من دورها المحوري المحرك العظيم في التفكير الموضوعي إلى حصرها في مجال تحليل العبارات اللغوية وقد استنفد هذا المنعطف مدة طويلة من القرن العشرين وهو أخصب القرون في البحث والاستقصاء والانتاج العلمي والتكنولوجي ……

ورغم كثرة ما كُتِب عن المنعطف اللغوي فإن من أفضل ما قرأت عنه كتاب (الفلسفة واللغة) للدكتور الزواوي بغورة …..

إن الموقف الوضعي قد قوبل بمقاومة تتلاءم مع خطورة نتائجه فتأسست الفلسفة الظواهرية بواسطة ادموند هوسرل الذي دافع بحرارة عن العقل وعن الفلسفة والميتافيزيقا فصار له تأثير عميق وواسع ……

ومع انتشار الفلسفة الظواهرية التي قاومت التضييق الوضعي إلا أنني أعتبر أن فيلسوف العلوم كارل بوبر هو أعظم من تصدى للنتائج المدمرة التي تنتج عن الاستخفاف بالعقل وتضييق نطاق المعرفة المعتبَرة فأعلن العقلانية النقدية وظل يكافح لإثبات أن العقل فاعلية نقدية وأنه بهذه الفاعلية حقق كل الاكتشافات العلمية الأساسية فنيوتن لم يدخل مختبَرًا وإنما بواسطة التفكير النقدي الخلاق والخيال الخارق توصل إلى أعظم النظريات الفيزيائية ……

ومثلما أن نيوتن كانت عدته عقله وخياله وما اختزنته ذاكرته من معارف وتصورات فإن آينشتاين أيضا قد توصل إلى النسبية بواسطة خياله المحلِّق وتفكيره الخلاق فالعقل ليس أداة هامشية وإنما هو قدرة عظيمة هائلة إذا أُحْسِن استخدامه وأُجيدت تعبئته بالمعارف والرُّؤى ومهارات التفكير …..

بقي أن أوضح بأن الفلسفة الوضعية تختلف عن وضعية أوغست كونت لذلك يجري التفريق بينهما ففلسفة كونت تُدْعى (الوضعية الكلاسيكية) أما وضعية حلقة فينا فتُدْعى (الوضعية الجديدة) أو (الوضعية المنطقية)

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صبري رسول

أطلّت علينا الكاتبة وجيهة عبد الرحمن بنصّ سرديّ، يحمل إشكالية المجتمع المتنوّع دينياً ولغوياً وقومياً، معنونٍ بـ «لالين» مع عنوانٍ فرعيّ مكمّل «حدث أن تزاوجت دور العبادة» صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت 2016م. تتضمن الرّواية فصلين، الأول غير معنون ومؤلف من ثلاثة عشر مقطعاً مرقماً، الثّاني معنون بـ«لالين… سليل نهايات الحروف»…

ناشرون فلسطينيون| رام الله
مقدمة:
كتاب “سر الجملة الاسمية” (الرقمية، 2025) للكاتب الفلسطيني فراس حج محمد يمثّل إضافة نوعية للمكتبة العربية، فهو لا يقتصر على دراسة لغوية بحتة، بل يتعداها إلى تحليل أدبي عميق، ويكشف عن أبعاد جديدة للشعرية العربية. يركز الكتاب على قوة الجملة الاسمية وإمكانياتها الإبداعية، مستعرضاً نماذج متنوعة من الشعر والنثر العربي، والكتاب عمل…

أقام الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكورد بالتعاون مع اتحاد كتاب كوردستان سوريا ندوة وحفل توقيع رواية «الزلزال» ، للكاتب والروائي ريبر هبون في مدينة إيسن الألمانية
بحضور جمع غفير من الحضور المعنيين بالشأن الثقافي
أدار الجلسة الشاعر مروان محمد “Bavê Zozanê”
كما وقدم الأديب والناقد ابراهيم اليوسف لمحة عن تجربة الكاتب ريبر هبون وإضاءة نقدية حول رواية الزلزال…

غريب ملا زلال

في حدود
طفولتك الأولى
أو فوق عرزال
كنت تعد نجوم الصيف
في ليله الجميل
أن تموت ببطء شديد
في شارع بيتك القديم
المطلي بهموم الراحلين
أو بين رفوف مكتبتك
حتى يتلقاك كتابها المجانين
إبتهاجاً بقلبك الموزع
على كل غلاف أو جدار
أن تموت ببطء شديد
في ساحة البيت الكبير
الصامت حزناً
على العاشقين الغائبين
خير
من أن تموت بسرعة الضوء
قي قصر
يشبه إناءاً فخارياً ،
طري العنق
جُهِّز
كي يرمى أرضاً
قرباناً
للإله الذي سيجيء

العمل ل ليديا…