تدفقات موسى الحمد تعيدنا إلى النبع .. إلى زمن النقاء

غريب ملا زلال 

أن تكون رقاوياً أو رقياً ( نسبة إلى الرقة ) ، أن تكون إبن الفرات ، و قد رضعت من مائه ، يعني أنك تتفق مع طير حر في واقع الأمر ، و تبدي اتفاقاً معه فأنت أيضاً مثله لا تُقَيَٓد بقفص ، و لا حدود لك ، و إذا كان لا بد فحدودك السماء ، يعني أنك تعيش شعوراً عالياً بالرغبة في فعل شيء ، ترفض أن تغدو من غير معنى ، هناك دائماً لديك أشياء أفضل من أشياء أخرى ، لديك حب الطبيعة و الحياة ، حب الإنسان و التفاصيل البسيطة لنثرياته بين غبار الرعاة و هي تسوق حلالها إلى المراعي لتنتشل ما تيسر لها من نعم الرب ، و بين ضفاف الفرات و قصباته ، هذا النهر الكبير كقلوب أبنائه ، دون أية محاولة منك لإلتماس الأعذار فأنت لا يمكن أن تكون هامشياً ، تتصرف بعفوية تحمل ثقة هذا النهر بخريره و جريانه ، لا تغريك المظاهر و لا المعرفة السطحية فجذورك ممتدة في الزمن ، يعني أنك كالفرات أيام كان ينحت في البوادي كي يبقى دائم الجريان ، يمنح الروح للأرض حتى تبدو أكثر كروية ، أكثر جمالاً ، أسوق هذا الكلام عن الرقة و طبعها ، و أنا بصدد قراءة أعمال أحد فنانيها ، فهي غزيرة بالفنانين كفراتها ، أسوق هذا الكلام و أنا بصدد قراءة تجربة موسى الحمد ( الرقة 1966 ) ، الفنان العصامي الذي اعتمد على نفسه في شق طريقة في هذا العالم الشائك و الجميل في الآن ذاته ، فهو محكوم مسبقاً بالعفوية التي تمنحه الثقة و القوة معاً ، و تجعل لإختياراته قيمة ، فلا يتردد في تحمل مسؤولياته نحوها ، حتى لا تقع عليه اللائمة فيما بعد ، و مهما يكن من اختياراته فهو جزء من هذه الحياة ، و شاهد عليها ، حلت عليه هذه الرغبة كي يتلقف الكلام و الصور و الإستعارات كي يعريها تماماً ، و يتجلى ذلك في تفرساته التي قد لا تفي حاجاته الجمالية التي ينشدها فيهفو إلى الإحتماء بما يمكن أن يساعده في إستعادة كل التدفقات الراغبة بالخروج .

موسى الحمد يعيدنا إلى زمن النقاء ، نقاء الفنان و الإنسان و الطبيعة و الأشياء ، إلى زمن البساطة و الصدق و الصراحة و الحب ، فهو ينتج أعماله و كأنه لا يريد أن يستيقظ من ذلك الزمن الذي بات حلماً نجهد كثيراً في إستعادته ، إن كان من الذاكرة البعيدة فندغدغ به مشاعرنا المتبقية إن كانت ما زالت تنبض بشيء منها أم لا ، أو بوقوفنا على الشفا الخطير ، حيث بات كل شيء فينا و حولنا في خطر ، فنسرع إلى إستحضاره بصرياً نجمل به فضاءاتنا البيضاء ، و ما يفعله موسى الحمد يصب في هذا الإتجاه ، فهو يرتاد الذاكرة تلك و يقتفي أثرها علّه يلتقطها من جذورها لتثمر جيداً ، فيسحب حبالها و كل ما يوهمه بأنها حاجاته و مستلزماته ، و لا يعدل عن ذلك مهما تردى الإحتجاج ، بل يستنهض مشاهده من عقالها حتى يحقق الإيضاح الذي يبتغيه ، و الإبانة التي ينشدها ، فتنكشف للقراءة المعمقة ، و بأن مشاهده يدور حول نفسها بعيدة عن التلميحات و الإستعارات و الدلالات ، فكل ضلوعها تسبح بين سكاكينه و فراشيه علها تتقدم و تتوالد ، و يتم توظيفها و مسايرتها حتى تتخذ لنفسها معبراً جمالياً و يسترد جماليتها به ، فهو لا يريد أن يوهم الواقع ، و لا أن يوهمنا بهذا الواقع ، و لهذا يلجأ إلى ما يمكن أن نسميه النثر اللوني القائم على التصوير دون أي تعليل أو إستدراك ، و في ذلك تتكون جملته الفنية و بالتالي نصه الجمالي / مشهده البصري ، مصرحاً بمراده على نحو غير قسري ، بل بكل ما يمثله في حد ذاته ، فهذه المجاهرة تسوق غيومه لتسقط بحملها على شكل بخات أمطار على عوالمه التي لا يريد الخروج منها ، و يحمي طقوسه بموجب الواقع الذي يضعه في حضرة مواقفه و قناعاته و عرضها بما تلبي حاجاته وحده ، و بالتوازي مع ما تذرفه المروج من دموع على ضفاف باتت المناحة تملأ قلبها ، و ليست بقادرة أن تشرب قطرة من ماء ذاتها ، فلم تعد الحياة على قيدها .

يقترن نص موسى الحمد بالزمان و بالمكان ، فإذا كان الزمان يهرم الحياة عادة ، فهي عنده إقتران بدمه الحقيقي الذي لا يتخلى عنه ، و لا يحتاج إلى النقل من دم آخر ، من خارج جسده ، ربما أتلف بذلك ذلك الجسد ، و لهذا فهو حريص على بقاء أشد عناصره نقاء ، و هذا هو سبيله إلى التطهر من الأدران جميعها ، و هو الذي قد يبعد عنه التفسخ و الإنحلال أينما وجدا ، و من هنا تبدأ عنده الحياة و لا تتلاشى ، و هي ليست مغامرة ، بل إقتناصات جمالية تلبس تفاصيل لحظاته المتشابكة منها ، و المنفلتة ، حتى يعلن عن نفسه متلبساً بالألوان في مواضع محددة ، في مواضع فيها تتعالق حركاته و صوره و كأنها تسري بتفاصيلها في نصه الذي يديره بالشكل الذي يريد ، و بالشكل الذي يرى دون مخاطرة و إن كانت دروب الحياة كلها باتت دروباً لها ، أقصد للمخاطرة ، و لا عدول له عن المكان الذي له سلطانه عليه ، المكان الذي يشكل حركيّة نصه و مشروعيته ، إن كان بالإفتتان بالعتبات و سر جاذبيتها ، أو بالجوهر و صميمه ، و التعاقب بينهما بتراتبية معهودة و التي قد تجعل المدركات التي تأتي لتبني كل معنى لها حتى تتراءى له و كأنها ترتقى إلى ذراها ، فهو يلملم الشظايا التي بعثرتها الزمان في المكان و كأنها ومضات تقارب الواقع و تجسده بالشكل الذي يريد و يرى ، فهو يكاد يجبر نصه على التشكل عنوة إن لم يرد الحشود عنه ، و يقف عند حدود وصفه ، فبعض وجوه الإيقاع فيه قديم و متعارف عليه ، و من من أبناء الفرات لم يقبض على المرئي منها و كذلك المحجب ، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه القراءة ستمضي بنا في إتجاهين إثنين ، ستكون في البداية كما رأينا نوعاً من الترحال في نصه و الإصغاء إليه إلى أن يمتثل لنا بكل محسناته و آهاته حتى يشرع في رصف إتفاق بينهما لينتشل ما يهدد تقدمه ، أما في المرحلة الثانية ، أو في الإتجاه الثاني فلا بد من الإعتناء بكيفيات إمتثال النص لمقولة تخص حضوره في المجتمع و مدى إستجابته لمتطلبات لحظته المندفعة و التي لا تهدأ ، فيفتح مجراه قريباً من الناس حتى يتكىء كل منهما على الآخر و يخرجا معاً من المأزق ، و يبقى الفنان بنصه في مواجهة لحظة تشابكهما و تقاطعاتهما مهما كان النص ممتلئاً بحنين الماضي و دموعه .

إن الناظر إلى تجربة موسى الحمد بتصوراتها و مقدماتها ، بمشاهدها و موضوعاتها سرعان ما يدرك أنها تجربة إبنة لحظتها التاريخية ، و من خلالها ستتراءى له لحظات أخرى تشدها إلى ماض بعيد و قريب شداً ، و تجعلها أصداء لذلك الماض ، و بمعنى آخر و أكثر وضوحاً فإنها ، أقصد تجربته تمثل لحظة من لحظات عودة رؤيته البيانية و مداخلتها للرؤية التي تدير العملية الإبداعية و تنظمها ، فهي لا تتملص من ماضيها ، كما أنها تعلن عن نفسها بأنها إبنة الفرات القديم و ضفافها ، كما هي إبنته الآن لكن بصياغاتها التي تحمل في تلاوينها نفحة الماضي و عبقه ، و لهذا كانت كل من الواقعية و الإنطباعية أقرب إلى حسه الشعبي الذي ينشد الإمتزاج بها ، و بملاحقة سريعة لتلك التجربة سنجد أنها قالت الكثير عن نهر الفرات ، و عن الطبيعة في الرقة ، و عن عادات و تقاليد و تراث الرقة ، و يكفي الزائر بجولة قصيرة بين أعماله حتى يتنشق حضارة مدينته ، و بأنها توثق الكثير من لحظاتها التي ذهبت و لن تعود ، بقيت في الذاكرة يستحضرها الفنانون فقط في أعمالهم كما فعلها موسى الحمد ، الفنان الذي تخرج من مركز الفنون التشكيلية بالرقة عام 1988 ، ويقدم أكثر من خمسة و ثلاثين معرضاً فنياً فردياً و جماعياً .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…