أجرى الحوار: ميادة سليمان
موجز عن السّيرة الذّاتيّة للضّيف:
– فراس عمر حج محمد؛ كاتب فلسطيني مقيم في قرية تلفيت؛ إحدى قرى محافظة نابلس، ولد في (30/7/1973 م)، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث.
– نشر العديد من المـقالات والقـصائد والنصوص في مـجالات النشر المختلفة؛ المواقع الإلكترونية، والصحف، والمجلات العربية، في فلسطين والوطن العربي، والمطبوعات العربية حول العالم.
– عضو اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين. وعضو لجنة قراءة في عدة دور نشر محليّة.
– عمل معلما لمدة تزيد عن (12) عاما.
– لديه خمسة وثلاثون كتابًا مطبوعًا، وعدد من المخطوطات الّتي تنتظر النّشر.
وقد كان لموقع ديوان العرب هذا الحوار معه:
– كتابك (فتنة الحاسّة السّادسة) تأمّلات حول الصّور، كتاب متميّز في فكرته، ومضمونه، ما سبب تأليفه؟ وهل يندرج تحت مسمّى “السّيرة الذّاتيّة”، فهناك كتابات عن صور لها ذكريات، كحديثك عن أناقة وجمال أمّك، وصور الجرّار الزّراعيّ لأبيك، وغيرها…؟
اسمحي لي أولا أن أعبّر عن شكري لكِ، أستاذة ميادة، وللقائمين على موقع ديوان العرب، هذا الموقع الذي احتضن كتابات كبار الكتاب؛ فلسطينيين وعرباً، وشكّل وما زال يشكل رافعة أدبية وثقافية، ومدونة حضارية تعبر عن الإنسان العربي في تطوره الحضاري والفكري والإنساني.
وفي العودة إلى الأسئلة حول كتاب “فتنة الحاسة السادسة” أقول: إن الصورة تحتل حيّزا كبيرا في ذاكرة الناس، وعند التأمل العميق أجد أن الصورة رافقت الإنسان في كل مراحل حياته، منذ بدء الخلق وإلى الآن، مرورا بالأزمان التي عاشها، الصورة لم تكن شيئا جماليا فقط، بل كانت عنصرا أساسيا في التكوين البشري، وهذا ما عبرت عنه النصوص الدينية التي وقفت عندها في الكتاب، ولأجل إبراز هذه البنيوية التركيبية في حياة البشر للصورة عملت على هذا الكتاب بهذه الكيفية التي استقرت عليها.
هذا سبب عام، لكنه ليس سببا مباشراً، إنما السبب الذي جعلني أنجز الكتاب وأخرجه للنور هو ملاحظتي لموقع الصورة على اختلافها في حياتي الشخصية وفيما كتبته من شعر ومن سرد، توسعت الفكرة، وأكملت المشروع بحيث أتممت الفكرة العامة لحضور الصورة في الحياة، وفي الأدب، على مستوى شخصي وعلى مستوى جماعي، فكان لا بد من الحديث عن الصورة في الإعلام والتعليم والحرب والفن وأشياء كثيرة.
وَسَمْتُ الكتاب بأنه كتاب “تحليل ونقد”، متجنبا أن يكون “سيرة ذاتية” على الرغم من حضورها في الكتاب وموضوعاته، لكن هذا الحضور لا يجعل الكتاب سيرة، بل توظيف السيرة وبعض من جوانبها لعمل تحليل نقدي لموضوع الصور، فحتى وأنا أتحدث عن الصور الشخصية لم أتخلَ عن التحليل والنقد، ولكن بحدود ما تطلبه تلك الصور، لذلك بقي رأي أبي- رحمه الله- بالصور حاضرا في الكتاب جميعه، وأثر أمي الجمالي حاضرا أيضا، وكأنهما هما الموجهان الخفيان للتحليل النقدي في التعامل مع الصور، فأخذت من حادثة الأب حكما نقديا، ومن نظرة الأم حكما جمالياً، فطورت الذاتي ليكون عاما، ولم أقع في فخ الذاتي والسيرة الذاتية.
على أية حال، الكتاب جاء اقتراحا مختلفا في دراسة الصورة. كما أنه لم يقع في الفخ الذاتي لم يقع في براثن النظريات النقدية السيميائية والبنيوية، وإن استفدت منها في تحليل بعض الصور، وعلى ذلك صنعت خبرتي الشخصية المقترحة في الكتاب مجدولة ما بين هذين المكونين الذاتي والنظرية النقدية. وعليه لم أكن أطمح من البداية أن يكون كتابا نقديا خالصا أكاديميا وإن لم يعدم هذه الناحية إلا أنه لا يغرق فيها. الآن وبعد أن أعدت قراءة الكتاب بعد طباعته، راضٍ عن رسالته وأهدافه والشكل والمضمون الذي تمثله صفحاته وفقراته.
– “إلى كلّ امرأة راسلتُها، وراسلتني، مع خالص الحبّ والتّقدير، وإن انتهت العلاقة إلّا أنّ اللغة لن تنتهي، فما زال في جعبتها الكثير.”
هذا نصُّ الإهداء في كتابك (الثّرثرات المحبّبة) الرّسائل، ما الّذي يميّزهُ عن كتب الرّسائل الأخرى؟ وألا ترى معي أنّ هناك أشياء ذكرتَها في رسائلك مع صديقاتك من الممكن أنّ صاحبها لا يريد لأحد معرفتها، كقصّة صديقك النّاقد مع الرّوائيّة، وغيرها من التّفاصيل المحرجة للأنثى؟
كل رسالة بين اثنين تختلف عن غيرها بين اثنين آخرين بالضرورة، تختلف في الصياغة وفي البناء وفي موضوعها وطريقة مناقشتها، فكل كتاب رسائل ابتداء هو كتاب مختلف عن غيره، فثمة أمور لا يحسن قولها إلا بهذه الطريقة من التراسل، لأننا نكون على طبيعتنا وعفويتنا الخالصة. هذا أمر عام في كل الرسائل، وأما ما اختلف لديّ في هذا الكتاب أنني أنا شخصيا من قمتُ بجمعه، وكنت منذ البداية أكتب الرسالة وأنشرها على الملأ، لتطلع عليها صاحبة العلاقة، وقد تنبهت إلى ذلك إحداهنّ وأشرت إلى ذلك. كانت رسائل حقيقية كتبت لتنشر منذ البداية، وليست رسائل بين شخصين نشرت بعد موت أحدهما، من هنا كانت أيضا مختلفة، وعليه فإن أغلب ما وجد فيها كان معروفا ومنشورا بشكل مستقل، ولم يشكل مشكلة أو تحفظاً على الرسائل وما جاء فيها حتى ما أشرت إليه، إنما كانت المشكلة في نشر الردود على تلك الرسائل التي تحفظت كل النساء على نشرها، وبعضهن تعتقد أنهن عرفن بسببها، وشكلت لهن إحراجا ما. ووصفت إحداهن هذا العمل بأنه ليس نبيلاً، لكنني على أية حال لم أستجب لكل تلك الاعتراضات، ولي وجهة نظري الخاصة بذلك، أودعتها في الكتاب نفسه، وفي مقالات أخرى، تنظّر لموضوع الأدب الشخصي.
لقد دفعت هذه الرسائل بعض أصدقائي ليكونوا فضوليين، ليبحثوا ويستقصوا، حول أولئك النساء، ويظهروا نوعا من النشوة إذا ما وُفّق أحدهما وعرف إحداهن أو أوشك على ذلك. لكن لا يحق لهن أن يمنعنني من نشر تلك الرسائل مهما كانت نتائج بحث القراء والأصدقاء الفضوليين، فهي من حقي أولا وأخيرا.
أعتقد أن هذه طريقة ناجحة نوعا ما في استدراج القارئ ليتعرف على الرسائل وما فيها من موضوعات، وهي ليس سطحية، بل إن فيها نفسا فلسفيا، كما كتب عنها صديقي حسن عبادي. وقد أعجبني رأيه هذا إذ استطاع أن يفلت من إسار عاطفة البحث عن الشخوص إلى البحث عن الأفكار الكلية الكبيرة في الكتاب.
– في مقالك (مدينة غريبة يسعى الجميع للارتماء في أحضانها)، تقول:
“وينبغي أن ألفت النظر… إلى كتاب “رام الله التي هناك” للكاتب محمود شقير، الذي وقف مضادا لتلك الموجة في الكتابة عن مدينة رام الله… ولعله الوحيد من بين الكتّاب جميعا مَن حاول إنصاف هذه المدينة الفلسطينية العريقة، وتقديم وجه حضاري لها.”
باختصار شديد، ما هو سبب نقمتك على الكتّاب الّذين كتبوا عن (رام الله)؟
ليس نقمة بالمعنى المفخخ بالحقد الشخصي، فأنا لا أنقم على أحد ولا أنتقم من أي أحد، إنما هي الكتابة حول موضوع شائك ومعقد، أو أريد له أن يكون كذلك، رام الله مدينة لا تختلف عن غيرها كما قال صديقي الكاتب خليل ناصيف، وضمنت رأيه كتابي “فتنة الحاسة السادسة”.
على الكتّاب أن يكونوا أكثر موضوعية في النظر إلى الأشياء والمدن والظواهر الطبيعية، فلا بد من أن يتم التعامل معها بشيء من الرصانة والحكمة، فلا تعامل كما يتعامل أحدنا مع الحرب وجنونها مثلا، فلا يحسن بالمرء أن يهجو مدينة أو يصفها بالعهر أو التفاهة لكنه يستطيع أن يذم الحرب وويلاتها وأن يهجوها بأقسى قدرة ممكنة، لأن الحرب منتج بشري سيء للغاية كما تشاهدين الحرب على غزة مثلا، أما المدن فهي صيرورة حياتية تتحول بتحول البشر، فالدور والشوارع التي في المدن ما ذنبها لتكون محل هجاء الكتاب. وحتى السلوك البشري العام، فمن الطبيعي مثلا أن يكون سلوك الناس في رام الله غيره في نابلس، أو على الأقل في جزء منهم، على اعتبار أنها مدينة مركز، جعَلَها مدينة وافدين من مدن أخرى ودول أخرى، مثلها في ذلك مثل المدن الكبرى القاهرة وعمان وبغداد وباريس وغيرها، فهذه طبيعتها لا تستدعي الهجاء والذم، وليس ذنب رام الله أنها مركز ثقل السلطة الفلسطينية السياسي التي لا يرضينا أو لا يرضي كثيراً من الكتاب والناس، وحتى لا يُرضي جزءاً من أهلها أصحاب الدور والمحالّ التجارية، قدرٌ وقعت فيه هذه المدينة، فتصرف الناس بناء على ذلك.
– ما رأيك بظاهرة نشر مسوّدات قصائد لشعراء رحلوا؟
وما رأيك بمقولة النّاقد والمترجم السّوريّ صبحي حديدي الّتي تابعتَها من خلال برنامج “ضفاف”، حيث يقول: “المسودات… للكتاب والشعراء “تحفظ في متاحف ومكتبات دولية…، وتستخدم لأغراض بحثية وليست للنشر.”
هذه المسألة متشعبة، ويختلف فيها القول، رسائل الكتاب والكاتبات الراحلين والراحلات هي بمعنى من المعاني مسودات، لم تنشر، محفوظة لدى العائلة أو جهة ما، متحف أو جامعة، نشرت الرسائل، وصاحب نشرها لَغَطاً ما، ولم يرض عنه كثيرون كما فعلت غادة السمان مثلا في نشرها رسائل غسان كنفاني ورسائل أنسي الحاج. ما ينطبق على الرسائل ينطبق على المسودات الشعرية والنثرية. على سبيل المثال نشرت صحيفة أخبار الأدب المصرية في عددها الأخير (15/9/2024) مقطعا من رواية غير منشورة للروائي الراحل خالد خليفة. وكما فعل أيضا الناقد محمد شاهين في نشره “رسالة مفتوحة غير منشورة” ومجموعة من مقالات إدوارد سعيد في كتاب جديد بعد وفاته.
محمود درويش صاحب موضوع حديث الناقد صبحي حديدي في تلك الحلقة من البرنامج نُشرت له الكثير من المواد المخطوطة بعد وفاته، وهذا ما فعلته الكاتبة والباحثة امتياز دياب، في كتاب “ميلاد الكلمات” التي عمدت إلى مجموعة مخطوطات لدرويش وأصدرتها في كتاب. كان العمل مذهلا ومهمّاً؛ لأن فيه قيمة نقدية عليا. عملٌ رعته وزارة الثقافة الفلسطينية واحتفلت به بفعالية إطلاق رسمية للكتاب، ولم تناقش مسألة أخلاقية النشر من عدمها، لأن الأمر كان خدمة للثقافة الفلسطينية بلا أدنى شك، على الأقل من وجهة نظري، ومن يتقاسم هذا الرأي معي. بل إن النقد الأدبي يأخذ هذا الجانب على محمل الجد عبر دراسته ضمن منهج النقد التكويني.
أعتقد أن كل ما يتركه الأديب خلفه، وخاصة العظماء المستقرين أسلوباً، حبذا نشر ما تركوه خلفهم، فليس فيه ما يعيب، على العكس، ربما هناك نصوص يعول أحدهم على أن تنشر بعده، لأن نشرها في حياته يسبب له مشكلة ما. ودعوتُ صراحة إلى البحث عن مسودات الشعراء الراحلين والعمل على نشرها، لأن في ذلك نفعا كبيرا لفهم أدبهم وفهم بواعث ذلك الأدب، بل ولفهم الكاتب ذاته على نحو أفضل، ففي نشر تلك المخطوطات والمسودات قد تغير آراء النقاد ووجهة نظرهم حول كثير من المسائل العامة والخاصة.
لا أرى فرقا كبيرا بين ما دعا إليه الحديدي من إتاحة المسودات لدراسة الباحثين لها، وبين نشرها، بل إنها طريقة غير مباشرة لحماية تلك المسودات من النقد والانتقاد، بحجة أنها غير منشورة، ولكن لماذا تدرس إذاً؟ يفترض رأي الحديدي مسافة حماية شخصية ما للأديب أراها وهمية ما دامت تلك النصوص متاحة للباحثين لتدرس ولتحلل وتنشر تلك الدراسات. لم أقتنع برأيه على أية حال.
– لديك مشاركة في ديوان “الفرقان- قصائد عن حرب غزّة 2009″، ما هي نتاجاتك الأخرى لدعم القضيّة الفلسطينيّة؟
نحن فلسطينيون، وكل ما يكتبه الكتاب الفلسطينيون هو داعم للوجود الفلسطيني حتى قصائد الغزل، فنحن لا ندعم القضية الفلسطينية، بل نحن القضية، نكتبها على نحو ما نرتئي وحسب الجهد والطاقة، لذلك في كل كتاباتي فلسطين حاضرة، في أول كتبي “رسائل إلى شهرزاد” وحتى “فتنة الحاسة السادسة” لا بد من أن تحضر، أمر ضروري كالماء والهواء، فنحن على أرضها ونكتب وهي تتمدد فينا. خذي مثلا تلك الجدلية بين المرأة والأرض التي بدأها راشد حسين على فكرة في قصيدة له بعنوان “بلادي” حيث رأى في المرأة فلسطين وجغرافيتها، ثم جاء درويش واستفاض ببحثها عنده النقاد والدارسون، وكل الكتاب بعد ذلك لم يشفوا من الحنين إلى فلسطين، فكلنا نكتب فلسطين لأنها بلدنا وأرضنا أولا وأخيراَ وقبل كل شيء وبعده، وفيها تاريخنا وثقافتنا، والاحتلال تفصيل مؤلم فيها، لا بد من أن يكون، مع علمي ويقيني أنه تفصيل طارئ سيزول مهما امتدّ به الزمن، فسبعون أو ثمانون أو حتى مائة عام ليست شيئا أمام حركة التاريخ.
مع كل هذا لي كتابان خاصان بالقضية الفلسطينية أصدرتهما في هذه الحرب الظالمة، وهما “مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين”، ويقوم على فلسفة الاندماج بين الذاتي والموضوعي في النظر إلى الأشياء والأحداث والتاريخ وأدب الحرب. وديوان “في أعالي المعركة” الذي ضمنته جميع ما كتبته عن فلسطين، حضارة وتاريخا وشهداء، متنبئا بالنصر العظيم الذي هو قادم لا محالة، بعون الله.
– هل لنا بأربعة أبيات في وصف الشّعر من مجموعة “من غمسة الرّيشة” من ديوانك “على حافة الشعر ثمة عشق وثمة موت”؟
أقول في صدر هذه المجموعة من قصيدة بعنوان “الشعر سيدنا الأجلّ”:
يا سيّد الشعر إنّ الشعر يعتذرُ
إذ ما نطقتَ تجلّى السحر والقدرُ
فاكتب قصيدك إكراماً لشجو سنا
واقرأ علينا فإنّا بعدُ ننتظرُ
واملأ كؤوسك بالألحان علّ هوىً
من غائب الشخص يتلونا فننبهرُ
أطربْ مسامعنا أخلصْ بمتعتنا
إنَّا للحن قصيد الشعر ننتصـرُ
– في حوار لك تقول:
“لو كنت مسروراً لتجربة ما لا أصوغها شعراً، بل إنني أرى أن النثر بها أليق وأنسب، فالشعر عندي سِفْر للحزن والتعاسة”.
لماذا الشّعر أكثر ملاءمة للحزن، وما ماهيّة هذا الحزن، حزن شخصيّ، أم هو حزن الفلسطينيّ الموشوم به مُذ خلق؟
تختلف المسألة باختلاف العمر والظرف، اليوم وقد تخطيت حاجز الخمسين عاما، صرت أفهم الحياة أكثر مما كنت عليه إبّان ذلك الحوار القديم. اليوم لا شيء يخزنني على نحو عميق كما في السابق، ربما لأنني تشبعت بمذاقات حزن متعددة، حتى الموت، لم يعد يخيفني أو يحزنني، أرى كل حيّ يؤدي مهمته ويرحل، فلم يأت إلى الدنيا بمشورته كما قال عمر الخيام، وسيرحل كذلك دون أن يستشار، إذاً له مهمة مرسومة، يؤديها، ليحل محله آخرون غيره، يكملون ما فعل، نحن نكمل سابقينا، واللاحقون بنا يكملوننا، لذلك لا شيء يستحق الحزن حالياً، يستوي في ذلك الفلسطيني وغير الفلسطيني. عندما تنضج العاطفة والرؤى يتحول الإنسان إلى حكيم أو يحاول أن يكون حكيما، لا يستخفّه الطرب فيكتب شعرا، إنما يتأمل، والتأمل يقربنا من تخوم الفلسفة، ويجعلنا أقدر على اجتراح فعل التفلسف.
قد تستغربين، عندما أدركت هذه الحقيقة لم أعد معنيا بالشعر، وبقوله، أقرأه وأحلله، أما كتابته فأصبح لي منها موقف، فتوقفت عن قول الشعر. كأن الاستنتاج التي تفضلت به صحيح نوعا ما، الشعر ابن بار بالحزن على ما يبدو، الحزن العاطفي غير الناضج الذي يلعب بالوجدان واللحظة ليس أكثر.
– أحبّ الأدب السّاخر، وقد لفت نظري مخطوط لك بعنوان: السّخرية في الشّعر الفلسطينيّ المقاوم بين عامي (1948-1993). هل لنا أن نحظى بأبيات من هذا الشّعر السّاخر؟ ومتى يصدر؟
المخطوط هو في الأصل دراسة نقدية للشعر الساخر الفلسطيني، كنت درست هذه الظاهرة قبل ما يقارب ثلاثين عاماً في مرحلة الماجستير في جامعة النجاح الوطنية (1994-1995)، لم تصدر في كتاب حتى الآن، ولا أرى ضرورة لإصدارها في كتاب، فهي متاحة عبر الإنترنت لأنها مودعة إلكترونيا في بوابة الرسائل العلمية المجازة، ويستفيد منها الباحثون والنقاد الذين درسوا ظاهرة السخرية في الشعر الفلسطيني وفي غيره، كانت دراسة رائدة في وقتها، وشكلت إضافة نوعية، ويسعدني جدا رؤية الإحالات الأكاديمية إليها بين الفينة والأخرى لتكون مرجعا للباحثين والدارسين.
ومن النماذج التي درستها في هذا البحث أشعار للشاعر عبد اللطيف عقل، رحمه الله، فتوقفت في الفصل الثالث عند قصيدته “توبة عن التوبة”، التي تحيل إلى قصيدة بالاسم نفسه- على اختلاف في الموضوع- للشاعر الأردني مصطفى وهبي التل. تقول بعض أبيات قصيدة عقل:
إذا ما قضى بغزة طفلٌ
وأفاض الدموع فيّ سيولا
سوف لن أذرف الدمع على
الطفل انتظارا أن ترسل المنديلا!
– من مقال لك أيضًا:
“وأشدّ ما لاحظته عند الكثيرين من القراء والزملاء نفورهم من الشعر وقراءته، لكنهم يقبلون بشغف على قراءة الروايات واقتنائها.” هل أثّرتِ الرّواية على عدم الاحتفاء بالمنجَز الشّعريّ، أم هو انحسار الاهتمام بالكتاب بشكل عامّ؟
في هذه الحرب انتعش الشعر على حساب الرواية، بل لقد رجع الشعر ليكون سيد الفنون القولية، وأقبلت دور النشر على طباعة منتخبات لقصائد الشعراء حول غزة والعدوان عليها. وشجعت الناس على أن يكونوا شعراء، لا روائيين عبر تنظيم جهات متعددة مسابقات شعرية للقول في معركة الطوفان، وتتبعت العديد من الدواوين الصادرة الخاصة بهذه المعركة، وهي كثيرة ومتنوعة منتشرة في البقعة العربية مترامية الأطراف، حيث وصلت إلى كل مكان وجد فيه عربي على وجه هذا الكوكب، وتوقفت عند هذه الظاهرة أيضا في كتاب “مساحة شخصية”.
الرواية تتراجع في المعمعة الحالية، لكنها انتعشت هي الأخرى في زمن سابق، حتى أصبح رائجا القول “هجرة الشعراء إلى الرواية”. الأحداث وطبيعتها هي المحرك الأساسي، فالشعر ينشط وسط الحروب والقلاقل، لا في أوقات الاستقرار. أوقات الهدوء يلزمها التأمل والكتابة الواعية والتفكير المنطقي الذي كانت الرواية مظهرا من مظاهره القوية.
على العموم أرى أنه لا تراجع في القراءة، بل زادت، لكن ما تراجع هو اقتناء الكتب الورقية، اليوم الكل يقرأ يوميا عن شاشته الصغيرة، حتى لو قرأ خمسين جملة أو اقتباسا تسيل أمامه إنه يقرأ، ومجبور أن يقرأ، لا سيما أن هذه المقتلة العظيمة التي تدب فينا منذ عام تقريباً جعلت الإعلام الرقمي القائم على المكتوب والمصور وربما اتحدا معا، دافعا نفسيا على القراءة المتلاحقة. أظن أن علينا أن ننظر إلى المسألة كنشاط اعتيادي يومي لا بد منه، لمتابعة ما يجري، وحتى تفهم لا بد لك من أن تقرأ، فصارت القراءة فعلاً يقارب أن يكون وجوديا، فمن خلال القراءة والمتابعة نبحث عما يفيض في أرواحنا القوة النفسية ورفع المعنويات. إذاً، فالقراءة حاضرة لكنها ليست من خلال وسائلها التقليدية؛ الكتاب الورقي المطبوع والمجلة الرائقة الإخراج والديوان المنضد.
– تقول في مقال لك عن تجربتك في تحكيم تحدّي القراءة:
“المجتمع القارئ هو مجتمع متحضر… ومن يدعم القراءة يدعم صناعة حضارة”، حدّثنا عن تجربتك في التّحكيم، وعن نسبة قراءة الكتاب الفلسطينيّ من قبل الطّلاب؟
المسابقات بشكل عام، تستدعي التحكيم، ولا بد من أن يكون هناك توافق بين المتسابقين ولجان التحكيم على تلك الأسس، هكذا يحدث مثلا في الرياضات المختلفة، فهو منضبط أكثر مما هو تحكيم مسابقة ثقافية عامة، كهذه المسابقة، تظل المفاجأة قائمة، في أن يكون هناك طالب قارئ ومثقف أكثر من أعضاء لجنة التحكيم، بعض الطلاب كان قارئا لمئات الكتب في الموسم الواحد. هذا كان يشكل معضلة معينة، أسس التحكيم لا تستطيع جَسْر هذه الهوة إذا لم يكن أعضاؤها مثقفين ثقافة عالية، ناهيك عن أنهم يجب أن يكونوا من النوع النهم قرائياً، واطلاعاً، لأن هذا الاطلاع هو الذي يكشف عن أهمية المسابقة وتأثيرها في وعي تلك الجماهير القارئة، فليس الهدف الكشف عن دار النشر وعن اسم المؤلف، وبدائل العنوان. ثمة ما هو أهمّ.
هذه التجربة من التحكيم كانت تفرض عليّ الانتباه إلى ما وراء المعرفة المقدمة، وأسعى دائما إلى أن أعطي القراء من الطلاب حرية في التحدث والتعبير عن النفس، والاستفاضة بالحديث حول الكتاب، خاصة ذلك الكتاب الذي لم أكن قد اطلعت عليه، أحب أن أتعلم من الطلاب عن هذا الكتاب، لذلك كنت أصغي بانتباه شديد لما يقوله أحدهم عن كتاب مهمّ، وربما دفعتني المسابقة إلى أن أبحث عن بعض الكتب لأقرأها أو أقرأ حولها على أقل تقدير.
مما يؤسف له إن الكتاب الفلسطيني لم يكن رائجا بين الطلاب والطالبات، كتب التنمية البشرية والكتب الدينية العامة الوعظية والأخلاقية كان لها حضور كبير، وأنه بقليل من الانتباه يمكن لنا تلافي هذا الخلل، وعلى أية حال كنت قدمت اقتراحا في المقال ذاته أن يهتم الطلاب في كل بلد بأدباء ذلك البلد، ليتعرفوا إليهم وإلى صناع ثقافتهم الوطنية، ويقرؤوهم، فليس من الصواب أن تكون قارئا لخمسين كتابا، وهو الحد الأدنى من الكتب اللازم للتنافس، ولم تقرأ كتابا واحدا لكاتب محليّ.
– حبّذا لو تحدّثنا عن عملك كعضو الهيئة الإداريّة لجمعيّة الزّيزفونة لتنمية ثقافة الطّفل سابقًا، وكمحرّر في مجلَّتيها (الزّيزفونة الصّغيرة، والزّيزفونة الكبيرة).
أفضل ما علمتني إياه هذه التجربة أنني أصبحت أكثر قربا من عالم الأطفال، والكتابة لهم، لأكتشف أن الكتابة للطفل أعقد من الكتابة للكبار، فليس من السهل أن تكون كاتب أطفال جيدا. كما أن التجربة جعلتني مقررا ومطلعاً على ما يقدم للأطفال من مواد، وفي هذا مسؤولية كبيرة تجاههم. عدا هذا وذاك فإن جمعية الزيزفونة دربتني على أن أحاور الطلاب خارج نطاق التدريس والمنهاج والمقررات الدراسية، لأنها كانت توفر لنا ككتاب أطفال فرصة مناقشة ما نكتبه مع الأطفال والفتيان والفتيات، واليافعين (طلاب المدارس)، حدث هذا معي ومع محمود شقير وإسراء كلش على سبيل المثال، نلتقي مع الطلاب ونناقش أعمالنا، وكانوا يفاجئوننا بأمور تنم عن وعي متقدم لهؤلاء الطلاب والطالبات، وكانت اللقاءات معهم ذات أهمية كبيرة في أن نراهم فكرا لفكر ونفسا لنفس بعيدا عن النظام التربوي الصارم. في هذه الحالة كان الطلاب أكثر حرية وأكثر قدرة على التعبير والمناقشة واتخاذ القرار، كنت أرى المسألة أشبه بحوار أجيال، له نفعه علينا نحن الذين سنزجي لهذه الفئة بضاعتنا، علينا أن نفهمهم لنستطيع مخاطبتهم بشكل أفضل. نحن في أدب الأطفال لا نعلم الأطفال، نحن نتعلم منهم كيف يجب أن نفهم أطفالنا في الدرجة الأولى. هذا رأيي أنا على أية حال، فلم أكن فيلسوفا معهم، ولا مفكرا كبيرا، ولا شاعرا عظيما، إنما صديق أشاركهم أفكارهم وأمنياتهم التي هي أمنيات صغاري أيضاً.
أفادتني التجربة أيضا أنني كتبت للأطفال مجموعة من الكتابات، نشرت لي الجمعية عملا واحدا منها في كتاب “أناشيد وقصائد للفتيات والفتيان”، وكذلك نشرت في المجلتين الكثير من الأناشيد للأطفال، ولكنها لم تطبع في كتاب، وكذلك قصتين لم يطبعا ولم ينشرا إلى الآن.
كانت التجربة مهمة، أضافت لي بعدا مهما في التجربة الأدبية الشخصية وأغنتها وأثرتها بالكثير الكثير، لا سيما أنني كنت أواكب الكتابة الإبداعية للأطفال، بالكتابة النقدية لكتب الأطفال التي تصدرها الجمعية، فتوقفت عند كتب كثيرة للكاتب محمود شقير وعند مجموعة شعرية للشاعر خالد الجبور الملقب براعي الشجر بعنوان “عصافير الندى”.
كما علمتني التجربة كيف نقدم في المجلتين المحتوى الرصين العميق بلغة ومستوى فكري يفهمه الأطفال ويتعلمون منه، ويساهم برفع مستوى الوعي الوطني والفكري لديهم. ولذلك وتحقيقا لهذا الأمر وتعزيزا لثقة الطلاب بأنفسهم، كنا ننشر لهم رسومات وخواطر واقتباسات وصورا، إلى جانب أننا اخترنا بعض الطلاب النابهين لنسترشد بوجهة نظرهم في الأعمال الأدبية التي تصدرها الجمعية، فكان هؤلاء قراء ونابهين ويمارسون النقد والمناقشة، ويمتلكون القدرة على أن يقولوا هذا الكتاب يناسبهم أم لا، لذلك كنا نسترشد بآرائهم.
– كيف ترى دور موقع ديوان العرب في السّاحة الثّقافيّة، وما هي اقتراحاتك لتطويره؟
لا أصدق ولا أجمل ولا أكثر واقعية من شعار الموقع حيث وصف نفسه بأنه “منبر حر للثقافة والفكر والأدب”، فمنذ تاريخ 26/1/2008 وحتى اليوم (15/9/2024) أكثر من ستة عشر عاما من النشر في الموقع، لم أتذكر أن إدارة الموقع طلبت مني حذف شيء أو تعديل فكرة، بل إن (896) مادة المنشورة لي في الموقع بقيت كما هي، ليكون بالنسبة لي وللكتاب الآخرين منبرا حقيقيا حرا، ولذلك اكتسب ثقة الكتاب، والباحثين، وصار الموقع مصدرا لمواقع أخرى، وحتى صحف ورقية، تقتبس من الموقع، وتحيل إليه.
يشكل هذا الموقع بالنسبة لي ببليوجرافيا مهمة لتلك المنشورات المرتبة تاريخياً، وتحفظها للباحثين، وكذلك الحال بالنسبة للكتاب الآخرين، إذ يساعد هذا الترتيب ملاحظة أفكار الكاتب وتطورها، لا سيما الكتاب الجدد، وبذلك فإن الموقع يقدم خدمة بحثية مهمة لمن أراد أن يرصد هذا الجانب. إضافة إلى أن مواد الموقع تحوز ثقة الباحثين الأكاديميين، وألاحظ هذا في تتبع حضور مقالاتي وآرائي الشخصية وآراء كتاب الموقع في الأبحاث الأكاديمية والرسائل الجامعية.
لكل موقع سمته الخاص، وفلسفته الخاصة، لذلك عندما يتخذ الموقع هذه الهوية الإلكترونية التي هي في جانب منها هوية بصرية، يصبح علامة على هذا الموقع، يصعب تغييرها أو تبديلها، واستطاع فعلا موقع ديوان العرب أن تكون له هوية بصرية وإلكترونية مميزة، مع سهولة الوصول إلى مادته عبر محركات البحث، لذلك أرى أن ديوان العرب كموقع للثقافة العربية الحرة استطاع أن يحافظ على شخصيته هذه، فالتبديل فيها أو الإضافة إليها ربما يفقد الموقع شيئا من تميّزه، وعليه فلست أرى أن أي مقترحات لتطويره ستكون قادرة على منحه وهجا أكثر مما هو عليه، إذ يكتسب وهجه من المعرفة الرصينة التي يقدمها. وهذا هو لب لباب الثقافة الحية الإنسانية التي تسعى أن تكون الحرية روحها وجسدها معاً.
ملاحظة: تم نشر الحوار في الموقع يوم الاثنين 16 أيلول 2024: https://2u.pw/OoVpd1Rx