(حيدر كرَّار): عندما تتفتّحُ البراعمُ الشعريةُ

عبد الستار نورعلي
أُعيدُ الشعرَ تاجًا فوقَ رأسٍ
بهِ الدنيا  تتيهُ على  سِواها
   هكذا يفتحُ لنا الشاعر ابنُ الثمانيةَ عشرَ ربيعاً (حيدر كرّار) مغاليقَ قلبه الصغير ومكنونات نفسه الإبداعية، وما فيها من حبٍّ للشعر، ومنزلةٍ رفيعة له ترتقي الى مكانة تاجٍ مرصَّعٍ بيواقيت الفنِّ الجميل، طريقاً مُخطَّطاً لأملٍ راودهُ عن نفسه، وحلمٍ رافقَ لياليه وأحلامه أملاً، وعشقَ عمرٍ، وهدفٍ، عملَ ويعملُ منْ أجل الوصول اليه غايةً عليا، منذ نعومةِ أظفارِ وعيهِ الغضِّ الرقيق، وتفتُّح موهبته، وهو يتوغلُ، ويتجوّل في بساتين الشعر العربيّ دراسةً مُختارةً (الفرع الأدبي/المدرسة الإعدادية/كربلاء)، ليجد نفسهُ وسط عالم الأدب، وسحره وغواياته، ممتطيّاً صهوة الشعر موهبةً وهوايةً ومحبةً واختياراً، لينطلَ به، فينهل من ينبوعه ما يسقي برعم الموهبة الشعرية ماءً وغذاءً وعشقاً، ليكبر … ويرتفع … ويُزهرَ … فيثمر كتابةً ونشراً (في الصحفِ والمجلات والمواقع الألكترونية)، ليغدو فرحاً غامراً يملأ نفسه بهجةً ومسرةً ،وحلماً يتحقّق، وهو مايزالُ على مقاعد الدراسة الإعدادية، فكيف بعد عشرة أعوامٍ، وبعد عشرين، وثلاثين… و.. وبعد تجربة أعمق فأعمق، وأغزرَ فأغزر؟ إنّه الشاعر الذي جعل من تاريخ الشعر العربيّ وإضاءاته وقيمه الفنية والبلاغية، وبنائه الرصين المتين البنيان، ومجده الخالد التليد، مصباحاً يحمله ليضيءَ به دربه الأدبي، ومثالاً يحتذيه:
على خُطى الفرزدقِ كنتُ أسعى
أُحيي  مجدَ  مَنْ سادوا  ذُراها
   وفعلاً سار على خطاهم، ليحي مجدهم، وهو البرعم الصغير الخصب المزروع في بستان الشعر العربي المعاصر، وأوراق أشجاره المثمرة متوجهة بفخر نحو هذا التاريخ العميق الجذور، والغزير من الثمار اليانعة القطوف، والكواكب السيّارة عبر الزمن. فهو ينهلُ منْ نبع الشعر العربيّ القديم؛ لأنه الجذرُ والسدرة التي يستريح في ظلالها الوارفة، مستمتعاً بثمارها اليانعة. ولا يفوته الحديث والجديد في بستان الشعر.
   حيدر كرّار – الموهبة الاستثنائية – يتجوّل في عوالم الشعر، قديمِه وحديثِه، وهو يحملُ قلمه، وخزينه الأدبي والمعرفي، راسماً وبائحاً بما في أحاسيسهِ وعواطفه، وتجربته الغرّة الذاتية، وما يحملُ من فكرٍ إنسانيٍّ ووطني، وكأنّه قد اشتعلَ رأسُه شيباً وخبرةً مترامية الزمان والمكان:
غدوتُ الفجرَ من رحمِ التحدّي
تُضيءُ  رؤايَ  دربَ  السائرينَ
أنا طيرُ السما لا شيءَ يحني
جناحي نحوَ أرضِ الظالمينَ
   هذا هو شاعرنا الغضُّ الطريُّ، يرفض الظلم، ويمقت الظالمين، ويرفعُ على كتفيه روح التحدي والحقَّ، محلِّقاً حرّاً مثل طيرٍ يأبى القفصّ، ويقاوم كي لا يُصطاد بسهام القهرِ والجورِ والطغاة. فلقد وُلد حرّاً أبيّاً، راسماً لنفسه العلا طريقاً ومُقاماً وموئلاً، نجماً ساطعاً برّاقاً، وكأنه مناضل عاش غمار النضال الطويل، حتى ابيضَّ شعرُ رأسه:
فلا نَجمٌ يُنافسُني شعاعًا
ولا قمرٌ يُساومُني سَناهَا
كذا كُتِبَ الخلودُ على جبيني
أنا  للحقِّ  إنْ  دارتْ  رحاها
   هذا الشاعرُ الغضُّ الغرير حين يتأمل الحياةَ، ويتوغل في معناها، منْ خلال تجربته القصيرة فيها، وكأنّه حكيمٌ خبرها طويلاً، وعايش غمراتها بكلِّ ما تضطرب وتموج، من تجاربَ مُعلِّمة تكتنز بها النفس، ويستقيم العُود، لتمدَّ الإنسان بوعي وإدراكٍ خلال السنين، فيكبرُ معها ليمنح الآخرين عمق ما تكتنز من تجارب، ومعانٍ وعِبَر، وما تمنحه من معرفةٍ ليقدمها حكمةً وعِظةً، ويُشرعَ أبوابَها أمام المتلقي طبقاً دسماً جاهزاً:
المشردون في الساحات
يراقبون اللافتات العتيقة
كأنها نصوص مقدسة
بينما العشاق القدامى
يمزقون تذاكرهم الأخيرة
ويشطبون أسماءهم
من دفاتر الأمنيات
أما العابرون
فلا يعرفون من المدينة
إلا ظلالهم
الراكضة خلف الغياب
ما معنى الانتظار؟
العجائز في الشرفات
يفتحون الراديو القديم
ليتأكدوا أن العالم لم ينطفئ بعد
(من قصيدة “المدينة لا تنام”)
    موهبة الشاعر حيدر كرّار تتجسّد بجلاء بين تعاطيه فنّ الشعر بشكليه الكلاسيكي الفراهيدي، والجديد بشكله النثري (قصيدة النثر)، وبإمكانية ومقدرة واضحة، تتجلّى في قصائده، ولا تخفى على البصر الفنيّ والبصيرة الخبيرة المتابعة. كما أنّ لها من جماليات الشعر بجوانبها المختلفة وعناصرها المتعدّدة: من عاطفة وأحاسيس، وخيال خصب، وأسلوب فيه من الجودة الكثير، والبلاغة التعبيرية، والبيان بمختلف عناصره ووظائفها، والسلامة اللغوية، وهو ما يشير الى إمكانيات الشاعر، وموهبته الكبيرة، وثقافته اللغوية والشعرية، ومتابعاته وقراءاته، ونضجه الفكري، ووعيه بمجريات ما يجري حوله في وطنه، وما يراه في العالم حولنا، وموقفه الشخصي من خلال قناعاته. وهو تجاوزٌ لسِنِّه المبكر.
   لم يكتفِ حيدر كرّار بما أسلفنا من أغراض شعرية عامة، تلمس حياة الناس والوطن، وموقفه، لكنّه طرقَ أبواب الذاتيات، معبّراً عن عاطفة الحبِّ في نفسه الطريّة العود، ودور الحبِّ في تنقية القلب والنفس، وجماله وحلاوة أحاسيسه، يقول في قصيدة (ربيعُ الحبِّ) بأسلوبه الرقيق الجميل مختاراً  الألفاظ المناسبة للحال، ولعاطفة الحبِّ:
 تَراقَصَ زَهرُهُ في كُلِّ رَوضٍ
وَغَرَّدَ طَيرُهُ لَحْنَ السُّرُورِ
فَيا أَهلَ الهَوى، هَلْ مِنْ رَبيعٍ
يُضيءُ قُلُوبَنا بَعدَ الدُّهُورِ؟
رَأيتُ الحُبَّ يَسري في رُبَاهُ
كَنَهرٍ فاضَ مِنْ عَينِ الزُّهُورِ
فَصِرْتُ أَجُوبُ بُسْتانَ التَّمنِّي
وَأَحْمِلُ مِنْ دُناهُ عَطْرَ نُورِي
إِذَا مَرَّ الهَوى فَافْتَحْ قُليبًا
يكُونُ لِحُبِّهِ أَرضَ الطُّهُورِ
فَلا تَخشَ الخُطُوبَ وَعِشْ هَنِيئًا
فَإِنَّ الحُبَّ يَصْنَعُ مِنْكَ نُورِي
   إنَّ هذا الأسلوب الرقيق الشفاف والجميل صوراً، وأداءً تعبيرياً، والمُترَف بوشيٍّ مُحلّىً بالعاطفة والحسِّ المرهف، إنّه ميزة يتحلّى بها الشاعر بما يجعله – إنْ واصلَ فيه – وطوَّره، يجعله من شعراء الغزل الرقيق ليدخلَ النفسَ بسلاسة وعذوبة:
وَلا تَحْسَبْ صَبَاحَ العُمْرِ يفْنَى
إِذَا غَنَّتْ عَلَى الأَغْصَانِ طِيرِي
فَكُلُّ الحُبِّ في الدُّنيا رَبِيعٌ
وَإِنْ جَارَتْ عَلَيهِ يَدُ الدُّهُورِ
فَأَزهِرْ كَالمدى وَازْهُو بِوَصْلٍ
يَجُودُ عَلَى الفُؤَادِ بِمَا يُسرِّي
وَدَعْ أَيَّامَكَ الغَبْرَاءَ تَمْضِي
فَإِنَّ الحُبَّ يَغْسِلُ كُلَّ زُورِ
   يمتاز شعره شكلياً – كما ذكرنا – بأنه على اللونين العمودي الفراهيدي والحديث المتجدّد، وهو في الاثنين يجيد الصياغة، بمكنةٍ واضحة، تدلّ على مقدرة، وإمكانية، وموهبة استثنائية، وجودة، ومعرفة دقيقة بالشكلين، وكأنه خبير قديم فيهما، وهو ما نفتقده في الغالبية العظمى ممن يكتبون ما يسمونه شعراً (قصيدة نثر). وإنَّ لتجربته الغضّة فرصةً في التنامي والرقي والتطوّر أكثر فأكثر مع السنين والخبرة الإضافية، ومواصلة المعرفة وتطوير الذات الشعرية والشاعرية، والثقافية العامة. وهو ما يؤهّله لأخذ مكانته العالية في وادي عبقر، وعالم الشعر اللذيذ. فهو لم يكتفِ بما ذكرنا من أغراض شعرية، بل تجاوزها الى العميق من المضامين والمعاني والأفكار، مستنداً أيضاً الى عالم السرد الغني الواسع الذي يضيف جمالية أخرى من جماليات فنّ السرد القصصي، مما يزيد من غنى القصيدة، وتوسيع عالمها الحسّي والخيالي والصُوَري، يقول في قصيدته (شارع الوقت):
الساعةُ الثامنةُ إلا قليلاً،
والشارعُ يمتدُّ كحبلِ غسيلٍ
عليهِ ثيابُ الزمنِ المنشورة.
 
العجوزُ الذي يجلسُ في الزاويةِ،
يعدُّ المارةَ كأنهم دقائقُ مفقودةٌ
من عمرهِ.
والطفلُ الذي يبيعُ الحلوى،
يرسمُ حلمَهُ على زجاجِ السياراتِ.
في شارعِ الوقت،
لا أحدَ يعرفُ إلى أينَ يمضي،
ولا أحدَ يسألُ عن وجهتِكَ.
فقط الريحُ
تطوي الأيامَ كصفحاتِ جريدةٍ قديمة.
 
    لِنتمعّنْ في الصور المدهشة المستحدَثة، المختارة بدقةِ صياغةٍ شعرية ماهرة حاذقة، ومخيال خصب غزير الأرجاء واسع الأنحاء، عامر بالصور والتشكيل اللوني بريشة الكلمات، والبلاغة الماهرة استعارةً وكنايةً وتشبيهاً ومجازاً:
(كحبل غسيل)، (ثياب الزمن المنشورة)، (كأنهم دقائقُ مفقودةٌ)، (يرسمُ حلمَهُ على زجاجِ السياراتِ)، (شارعِ الوقت)، (تطوي الأيامَ كصفحاتِ جريدةٍ قديمة).
 
   (حيدر كرّار) ابن الثمانية عشر ربيعاً، البرعم الشعريِّ، وقد بدأ ربيعُ الشعر عنده يسقي موهبته وتجربته، لينمو ويُزهر بألوان الفنِّ الجميل، هو شاعر قادمٌ على عربةِ أبوللو الشعرية، وهو يملأها، ويُضيئها بمصباح شعره البرّاق. ولسنا مبالغين:
فـ(المكتوب باين من عنوانِهِ).
عبد الستار نورعلي
شباط 2025

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…

صدرت الترجمة الفرنسية لسيرة إبراهيم محمود الفكرية” بروق تتقاسم رأسي ” عن دار ” آزادي ” في باريس حديثاً ” 2025 “، بترجمة الباحث والمترجم صبحي دقوري، وتحت عنوان :

Les éclaires se partagent ma tête: La Biography Intellectuelle

جاء الكتاب بترجمة دقيقة وغلاف أنيق، وفي ” 2012 ”

وقد صدر كتاب” بروق تتقاسم رأسي: سيرة فكرية” عن…

كردستان يوسف

هل يمكن أن يكون قلم المرأة حراً في التعبير؟ من روح هذا التساؤل الذي يبدو بسيطاً لكنه يعكس في جوهره معركة طويلة بين الصمت والكلمة، بين الخضوع والوعي، بين التاريخ الذكوري الذي كتب عنها، وتاريخها الذي تكتبه بنفسها الآن، فكل امرأة تمسك القلم تمسك معه ميراثاً ثقيلا ً من المنع والتأطير والرقابة، وكل حرف…