أ.م.د. محمد عزيز شاكر زازا
بحث قدّم إلى الملتقى الدولي حول (( المتغيرات في موسيقات شعوب العالم العربي )) الذي انعقد بالجزائر العاصمة خلال الفترة التي كنتُ فيها رئيساً لقسم الموسيقى بالمدرسة العليا للأساتذة بالجزائر العاصمة.
—-
لا يمكن تصوّر أية عملية إبداع موسيقية بمعزل عن المحيط الاجتماعي العام الذي تتم فيه هذه العملية. فلهذا المحيط غالباً دور كبير في تحديد الاتجاهات الفنية ، وتقرير مدى ” الجديد ” الذي أتى به المبدع. وبالنسبة لظروف مجتمعاتنا فإن للمحيط الاجتماعي ربما الدور الحاسم .
وإذا اتفقنا على أن الفنون الجميلة (ومن ضمنها الموسيقى) يمكن أن تكون مؤشراً، أو مقياساً لمدى تحضر ورقي مجتمع معيّن لتوجّب علينا أيضاً أن نعترف بالعلاقة الوثيقة المتبادلة مابين الموسيقى والحياة الاجتماعية، والتاريخ السياسي، والأحوال الجغرافية، إلى جانب اللغة .. وبالإضافة إلى كون الموسيقى تستند إلى معطيات علمية تتضمن الطبيعة والرياضة، فإن ّ بينها وبين كل من الأدب وسائر الفنون روابط وثيقة [انظر إلى الرقم 1] .
وباختصار : فإنّ للموسيقى علاقة وثيقة بمجمل الوعي الاجتماعي بشكل عام ، وبالوعي الجمالي لهذا المجتمع بشكل خاص . ولا يتشكل الوعي الجمالي الاجتماعي بين ليلة وضحاها ، بل يتشكل عبر مئات السنين من خلال تراكمات متواصلة لعناصر عديدة ، منها : الأساطير والحكايات ، والأغاني الشعبية ،والمعتقدات الدينية والدنيوية ، والعادات والتقاليد ، والأمثال والملابس ، والدّمى ، والرسوم ، والمنحوتات ، والألعاب … وغيرها من العناصر التي تشكل معاّ ذاكرة الشعب . يضاف إلى هذه العناصر ما يتم إنتاجه من فنون ” فنّية” في القرى والمدن ، والمراكز الحضرية ، وبلاطات الملوك ، وقصور الأمراء…ويكون النتاج في النهاية ما يطلق عليه اصطلاحاً : الوعي الجمالي الاجتماعي .
ويحدّد شارل لالو مراحل تشكل العملية الفنية من خلال ثلاثة محاور :
1 ـ الشروط الاجتماعية الحيادية جمالياً للفن .
2 ـ الشروط الاجتماعية الجمالية للفن .
3 ـ الارتكاسات المتبادلة بين الحوادث الجمالية ، والحوادث الحيادية إجمالا.
بالإضافة إلى ذلك ، فإنَّ للمعطيات الجزئية المستمدّة من التجارب والمدارس ذات النزوع الفردي أو ( الذاتي ) دورها في تشكل العملية الفنيّة [انظر إلى الرقم 2].
ويقول الدكتور زكريا إبراهيم في كتابه ( مشكلة الفن ) بأن الشروط العامّة التي تتحكّم في تطور الوقائع الجمالية وتَرَقْي الأعمال الفنيّة، هي بعينها تلك الشروط التي تخضع لها شتّى النشاطات البشرية الأخرى وهي: الجنس أو السلالة، والبيئة أو الوسط الاجتماعي، والعصر أو المرحلة التاريخية [انظر إلى الرقم 3]. ومن ثمَّ فان الفنون ـ ومن ضمنها الموسيقى تتكون بطريقة تدريجية في ذهن إنسان ينتمي إلى حضارة بعينها .
إنَّ الوعي الجمالي كجزء من الوعي العام للمجتمع ما هو إلاّ انعكاس صادق لتفاعلات البُنية التحتية للمجتمع ، ببنيته الفوقية . فأنماط معينة من أساليب الإنتاج والعلاقات الإنتاجية ( الاقتصاد ، الزراعة ، الصناعة، التجارة، الخدمات …. الخ ) تفرز تشريعاتها الخاصة، وقوانينها، وعقائدها، وثقافتها، وأعرافها … وتتحدّد هذه العلاقات مابين بعضها البعض في العصر الحاضر ضمن إطار مؤسسات الدولة : التشريعية، والتنفيذية، والقضائية بالإضافة إلى وسائل الإعلام التي تلعب دوراً كبيراً في المجتمعات الديمقراطية.
وبطبيعة الحال فإنّ متغيرات البنية الفوقية للمجتمع ليست انعكاساً فورياً مباشراً، لمتغيّرات البنية التحتية فيها، فعلى الأغلب يتأخر تشكل البنية الفوقية”الجديدة”عن تشكل البناء التحتي ” الجديد ” .
إذن لا يمكن بحث المتغيّرات في موسيقات العالم العربي بدون فهم المؤثرات التي تنال من البناء الفوقي لمجتمعـات البـلدان العربيـة والتي تؤدي ـ فيما تؤدي ـ إلى خلق الوعي الجمال لهذه المجتمعات.
فلنأخذ بعض الشواهد من الموسيقى الأوروبية باعتبارها حَظيَتْ ـ ولا تزال ـ بالكثير من الدراسات:
إنّ معظم الدراسات التي تتناول متغيّرات الموسيقى الأوروبية، لا تتجاهل علاقة هذه المتغيّرات بالمتغيّرات التي طرأت على إيديولوجية الكنيسة نفسها، نظراً لاعتماد الكنيسة للفنون الجميلة ـ منذ القرون الأولى لنشأة المسيحية ـ كوسيلة رئيسية من وسائل نشر الفكر الديني ، وكذلك في ممارسة الشعائر الدينية. وعندما تمَّ إعلان الدين المسيحي ديناً رسمياً للإمبراطورية الرومانية أثناء حكم قسطنطين (272 ـ 337 ميلادية) حشدت الكنيسة الرومانية في الحال جهودها لتوحيد نظامها وعقيدتها في العالم الروماني بأجمعه. إذ أدرك آباء الكنيسة بأن الاختلافات في ممارسة الشعائر الدينية، خاصة في الجزء الموسيقي منها ، قد أدّت إلى خلافات عقائدية خطيرة [انظر إلى الرقم 4].
وتنقلنا هذه القضايا إلى قضية أخرى أهم وهي:
ـ إنَّ كل المتغيّرات في الإيديولوجيا الرسمية للكنيسة قد ارتبطت بالمتغيّرات المتحققة على الأرض، في العالم الدنيوي، خارج إطار الكنيسة. وخاصة مجمل التطور، والتغير في أساليب الإنتاج والعلاقات الإنتاجية. ومع نمو وتطور أساليب الحرفيات (المانيفاكتورا) والتقدم الصناعي الحاصل خلال القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، ونشوء المجتمعات البرجوازية، ثم ما تلا ذلك من ظهور للحركات القومية، أصيب المركز الديني للفاتيكان في الصميم. ووّلى ذلك العهد الذي كان باستطاعة البابا أن يعزل ملوكاً، وينصّب آخرين بقرار من عنده. وقد تغلغل تأثير هذه المتغيّرات إلى داخل المؤسسات الدينية نفسها. وتعتبر حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر ( وهو رجل دين ) تعتبر خير معبّر عن المأزق الذي وجدت الكنيسة نفسها فيه مع متغيّرات العالم الخارجي ( الدنيوي )، وقد أدّت حركة لوثر هذه إلى إحداث تغيرين أساسيين وكبيرين في ممارسة الشعائر الدينية:
-
اعتماد اللغة الألمانية بدلاً من اللغة الرسمية اللاتينية.
-
اعتماد الموسيقى الألمانية ( الأقرب إلى الشعبية ) في ممارسة الشعائر.