رأس السنة الإيزيدية، “جارشما سه رئ نيسانئ”

 الشيخ صبحي نابو

 

الإيزيدية هي مجموعة عرقية ودينية قديمة . وهي ديانة توحيدية غير تبشيرية، تعتمد على مفاهيم روحانية خاصة بها، حيث تؤمن بوجود إله وأحد خالق للكون، وتقدس الملائكة السبعة النورانين و أحترام جميع الأديان والمعتقدات.

 تتميز الإيزيدية بعاداتها وتقاليدها الفريدة التي تتوارثها الأجيال، مما يجعلها من الديانات الغنية بالتراث والثقافة التي تدل على تاريخها الممتد عبر آلاف السنين. يعود الاحتفال بعيد رأس السنة الإيزيدية إلى تقاليد عريقة ترتبط بمفهوم الخلق وتجدد الحياة. وفقاً للنصوص الدينية الإيزيدية، بدأ استقرار الأرض ونشوء الحياة عندما نزل “لالش النوراني” عليها، مما جعل هذا اليوم رمزاً مقدساً. كلمة “نيسان” ذاتها مشتقة من “نيشان” التي تعني رمزاً أو ولادة جديدة، وكلمة الأربعاء (جارشم) مشتقة من “جار” التي تعني أربعة و”شم” التي تعني اليوم، والمقصود برقم أربعة هم الملائكة الأربعة التي نزلت على الأرض، وكان كل ملاك مسؤولاً عن أحد العناصر الأربعة: التراب، الهواء، الماء، والنار (الشمس).

يحتفل الإيزيديون بعيد رأس السنة الإيزيدية (سرصال)، المعروف أيضاً بـ”عيد الخليقة”، في أول أربعاء من شهر نيسان كل عام. في هذا العام 2025، يصادف هذا العيد يوم 16 أبريل وفقاً للتقويم الشرقي المعتمد لدى المجلس الروحاني الإيزيدي، بينما يوافق 9 أبريل وفقاً لتقويم الإيزيدي المعتمد لدى فقراء جبل شنكال.

هذا العيد يحمل معاني روحية عميقة بالنسبة للإيزيديين، إذ يرمز إلى النور والتجدد والانبعاث. إنه فرصة لتعزيز الروابط الاجتماعية والأسرية، حيث يجتمع الناس للاحتفال وتبادل التهاني، متمنين لبعضهم سنة مليئة بالخير والبركة. تبدأ العائلات الإيزيدية تحضيراتها مساء الثلاثاء، حيث تُلوّن البيض بألوان زاهية ترمز إلى الكرة الأرضية وتنوع الطبيعة في نيسان. كما يتم إعداد عجينة مميزة تُسمى “ساوك”، تُوزّع على الجيران في أجواء من التآلف والمحبة. إضافةً إلى ذلك، تُقطف باقات وردة نيسان، القريبة من شقائق النعمان الحمراء، ويتم تغليفها بورقة نبتة اللوف، والتي تحمل في هذا اليوم أسم “بناف” أحتراماً للتقاليد العريقة لا يتم لفظ أسم ذلك النبات باللغة الإيزيدية . تُثبت هذه الباقات مع خليط من التراب وقشور البيض فوق أبواب المنازل احتفاءً بالربيع وبداية السنة الجديدة، مما يعبّر عن ارتباط الإيزيديين بالطبيعة وتجدد الحياة.

فتائل معبد لالش بعدد أيام السنة :

في مساء يوم الثلاثاء ومع غروب الشمس، يجتمع المجلس الروحاني وجمع غفير من الإيزيديين والخلمتكارين (خادمي معبد لالش). يطلب بابا شيخ من بابا جاويش إضاءة القناديل (الفتائل) في ساحة “سوق المعرفة” بعدد أيام السنة (366 قنديلاً)، إيذاناً ببدء السنة الجديدة.

Surek jê Sûrê batine 366 Alim tê dikin xwendinê.. Lê ser sekinîye Siltan Ezi :

Nûra Baqî yekê bi tenê…

الترجمة : سر من أسرار الباطنية حوله ٣٦٦ عالم يقرأون على رأسهم سلتان إيزي نور الخالق وأحد الأحد .

رغم أن البعض يطلق على هذه المناسبة أسم “الأربعاء الأحمر”، إلا أن هذه التسمية لها خلفيات سياسية، كما يوضح الباحث الإيزيدي سالم الرشيداني (في الإيزيدية، قدسية الأربعاء تعني يوم رحمة يُخصص لعبادة الخالق، بينما “الأربعاء الأحمر” كانت ذكرى لإبادة الإيزيديين، حيث أُبيحت فيها دماء الأبرياء من قبل أعدائهم مستغلين احترام الإيزيديين لقدسية الأربعاء) .

كذبة نيسان والتقويم الغربي والتقويم الشرقي

قد لا يعرف الكثير من الناس الذين يمارسون عادة كذبة نيسان السبب الحقيقي وراء هذه العادة، إذ لا توجد دلائل مؤكدة عن أصلها. ومع ذلك، تشير بعض الآراء إلى أن هذه العادة قد نشأت عندما استمرت العديد من المدن الأوروبية في الاحتفال ببداية العام في الأول من أبريل. بدأت هذه الفكرة في فرنسا بعد اعتماد التقويم المعدل الذي وضعه شارل التاسع عام 1564م، وكانت فرنسا أول دولة تطبق هذا التقويم. قبل ذلك، كان الاحتفال بعيد رأس السنة يبدأ في يوم 21 مارس وينتهي في الأول من أبريل، حيث يتبادل الناس الهدايا بمناسبة السنة الجديدة.

ومع ذلك، تشير الحقائق التاريخية إلى أن الشعوب القديمة في الحضارات والإمبراطوريات المختلفة كانت تحتفل بيوم الاعتدال الربيعي، وتمتد هذه الاحتفالات حتى الأول من نيسان. وقد أُطلق على هذه المناسبة أسماء متنوعة مثل:

عيد دوموزي، عيد أكيتو، عيد زاكموك، وعيد شمو أو شم النسيم عند المصريين القدماء (2700 قبل الميلاد)، بالإضافة إلى عيد الفصح أو القيامة عند المسيحيين، وعيد الأم، أم الزلف، وغيرها من الأسماء التي تشير جميعها إلى مناسبة واحدة.

ويشير المؤرخون إلى أن هذا العيد انتشر باسم “نيروز” بعد احتلال العراق من قبل الأخمينيين الفرس سنة 539 ق.م.

ووفقًا للمؤرخ الدكتور عامر حنا فتوحي في كتابه “الكلدان منذ بدء الزمان” فإن أول تقويم بشري ظهر في وادي الرافدين، ووضعه الكلدانيون أو الفراتيون الأوائل، حيث بدأ في (الأول من نيسان عام 5300 ق.م)، وكان يمثل بداية تأسيس أول دولة في العالم، وهي مملكة أريدو.

أما بالنسبة للتقويم الروماني، فقد تأسس في عام 735 قبل الميلاد. وحتى سنة 304 ق.م، كانت السنة الرومانية تتكون من عشرة أشهر، أولها مارس (آذار) وآخرها ديسمبر. وبعد ذلك، تم إضافة شهرين هما يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) قبل مارس، وبذلك أصبح ديسمبر (الشهر العاشر) هو الشهر الثاني عشر، ونوفمبر (الشهر التاسع) أصبح الحادي عشر، وأكتوبر (الشهر الثامن) أصبح العاشر.

وفي عام 46 ق.م، أجرى يوليوس قيصر تصحيحًا للتقويم معتبراً السنة تتكون من 365 يوماً وست ساعات. ومع ذلك، بقي هناك خطأ طفيف، حيث إن السنة الفعلية تحتوي على 365 يوماً وخمس ساعات و48 دقيقة و51 ثانية. وهذا الفرق الصغير، أي 11 دقيقة و51 ثانية، يضيف يوماً كاملاً كل 129 سنة، وهو ما يُعرف بـ”التقويم اليولي” أو “الشرقي”.

وفي عام 1582، جاء الإصلاح الغريغوري وسُمّي نسبة إلى البابا غريغوريوس الذي أمر باستخدامه. في ذلك الوقت، كان الفرق بين التقويم اليولي والحقيقة الفلكية لدورة الشمس السنوية عشرة أيام، مما جعل الاعتدال الربيعي يقع في 11 آذار بدلاً من 21 آذار. لذلك، تم حذف عشرة أيام، وأُعتبر اليوم التالي للرابع من أكتوبر هو الخامس عشر من أكتوبر. ومع مرور الزمن، زادت الفرقية بين التقويمين الغريغوري واليولي بمقدار يوم واحد كل 129 سنة، وهو ما يجعل الفرق الآن بينهما 13 يوماً. ومنذ هذا التاريخ، بدأت السنة الجديدة في الأول من يناير بدلاً من الأول من نيسان.

متى يبدأ رأس السنة الإيزيدية؟

حسب النصوص الدينية الإيزيدية المقدسة، بعد خلق الأرض بمئات الملايين من السنين، لم يكن هناك حياة على سطح الكرة الأرضية حتى نزلت عليها “لالش النورانية”، ولذلك يُقال إن “لالش” هي خميرة الأرض، مما أدى إلى استقرار عناصر الحياة الأربعة: الماء، التراب، الهواء (الأوكسجين)، والنار (الشمس). بعد ذلك، أزهرت الأرض وتزينت بالألوان، وبدأت الحياة.

تقول السبقة الدينية من قول الخليقة والتكوين:

“قه‌ولئ، زه‌بوني مه‌كسور: به‌عدى چل سالى ب هزماره، عرض ب خورا، نه‌كرت بوو حشاه، هه‌تا، لالش و موحبه‌ت، ناف دا، دا نه‌داته‌، خواره، لالش كو دهاته، لعرض شين دبور، نه باته، بى زيني چيقاس كنياته.”

الترجمة: بعد أربعين سنة، لم تكن الأرض مستقرة حتى نزلت عليها “لالش”. وبعد نزولها، بدأت الحياة وتزينت الأرض.

يسبق هذه المناسبة يومان مقدسان:

  1. الأربعاء الذي يلي 21 آذار، ويُسمى “قرا جارشم”، حيث يتساوى فيه الليل والنهار. ومن أهم طقوسه صنع كعكة رأس السنة (كولاج).
  2. الأربعاء التالي له، ويُسمى “آخر جارشم”، ويقتصر على زيارة المقابر، وتبادل الخيرات والزيارات.

أما أول أربعاء من شهر نيسان، فهو عيد “الأربعاء الأول من نيسان”، حيث يحتفل الإيزيديون برأس السنة الإيزيدية، والذي يُعد أول أربعاء من السنة الإيزيدية الجديدة، ويُعرف أيضًا بـ “أوغَر جارشم”، أي أربعاء الوداع.

عيد الاعتدال الربيعي

كما ذكرنا، تستمر مراسيم عيد رأس السنة الإيزيدية لثلاثة أسابيع متتالية، كل يوم أربعاء، بدءًا من الأربعاء الأول بعد 21 آذار. ويسبق هذا العيد عيد ملك زان، الذي يبدأ في 18 آذار ويستمر حتى 24 آذار.

يقول النص الديني الإيزيدي:

“18 آذارئ ملكزان تيتا خورئ، خملي سه‌رئ دارئ هه‌تئ 24 آذارئ.”

الترجمة: في 18 آذار، هبط ملك زان من السماء، فتزينت الأشجار حتى 24 آذار.

لماذا يقع الأربعاء الأول من نيسان في منتصف الشهر الميلادي؟

يرجع ذلك إلى أن الإيزيديين يعتمدون حالياً على التقويم الشرقي، الذي يسبق التقويم الميلادي بثلاثة عشر يوماً . إضافة إلى ذلك، هناك تقويم آخر يُعرف باسم “التقويم الحساس للفقراء”، والذي يسبق التقويم الشرقي بأسبوع واحد. ولمعرفة الحساب الدقيق، يمكن مقارنة التقويم الشرقي الذي يعتمده أغلب الإيزيديين مع التقويم الحساس للفقراء، بالإضافة إلى مقارنة توقيت عيد ملك زان الذي يُفترض أن يتزامن مع الاعتدال الربيعي، عندها نصل إلى الحساب الدقيق.

أخيراً :

يُعتبر عيد رأس السنة الإيزيدية شاهداً على تمسك الإيزيديين بهويتهم رغم المآسي التاريخية والإبادات التي تعرضوا لها. وعلى مر العصور، عُرفت هذه المناسبة بأسماء مختلفة، واستُغلت لأغراض متعددة. ومع ذلك، فقد تمكن الإيزيديون، بفضل الخالق (طاووسي ملك)، من الحفاظ على طقوسهم وتراثهم ودينهم، رغم تعرضهم لمئات المجازر الجماعية، فقط لأنهم يعتنقون ديانة مسالمة، ولهم تاريخ عريق يفتخرون به.

 الشيخ صبحي نابو، رئيس المجلس الديني الإيزيدي

كل عام وأنتم بخير، وأتمنى السلام والمحبة للإيزيديين وللبشرية جمعاء.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

بدعوة من جمعية صحفيون بلا حدود الدولية، أقيمت اليوم، السبت ٦ نيسان ٢٠٢٥، أمسية شعرية متميزة في مدينة إيسن الألمانية، شارك فيها نخبة من الشعراء والكتّاب اعضاء الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد.

وشهدت الأمسية حضورًا لافتًا وتفاعلاً كبيرًا من الحضور، حيث تناوب على منصة الشعر كل من:

صالح جانكو

علوان شفان

يسرى زبير

بالإضافة إلى الصديق الشاعر منير خلف، الذي…

تنكزار ماريني

 

الهرمنيوطيقا وما بعد الهرمنيوطيقا هما مفهومان مركزيان في الفلسفة والعلوم الإنسانية يتناولان فهم وتفسير النصوص والمعاني والظواهر الثقافية. وفيما يلي السمات والخصائص والاختلافات بين هذين المنهجين:

 

الهرمنيوطيقا. الخصائص والمميزات:

التعريف:

الهرمنيوطيقا هي فن وعلم التفسير، لا سيما للنصوص واللغة والمصنوعات الثقافية. تعود جذوره إلى الفلسفة القديمة وتم تطويره في القرنين التاسع عشر والعشرين.

 

الجذور التاريخية: للهرمينوطيقا جذور تاريخية…

جمال البرواري

 

صدر من مكتبة كازي بوك كتاب ” فرحة السلام – من الشعر الكلاسيكي الكوردي للشاعر عصمت شاهين الدوسكي تصميم الغلاف الفنان الكبير نزار البزاز الطبعة الأولى رقم الايداع في المكتبة العامة في دهوك 25/2525 156″ صفحة ” حجم متوسط ..يستهل الكتاب بشكر للأستاذ الكبير دلخواز موسى محمد مدير الثقافة والفنون في زاخو لمساهمته مشكورا…

رياض عبد الواحد| العراق

يمكن أن نلج إلى هذه المجموعة من منافذ عديدة، أولها ثريا المجموعة/ أقدحُ شررَ الكلام، تحليل الجملة “أقدح شرر الكلام” يمكن تقسيمه إلى ثلاثة مستويات: فونيمي (صوتي)، ودلالي (معنوي)، ونحوي (تركيبي).

التحليل الفونيمي (الصوتي):

الكلمة: “أقدح”

الأصوات الصامتة: (همزة)، (قاف)، (دال)، (حاء).

الأصوات الصائتة: (فتحة قصيرة).

البنية الصوتية: همزة قطع في البداية، يتبعها صوت قاف انفجاري…