عبدالوهاب پيراني
(عتيقة انت
كأنك رصيف في مدينة مهجورة
تركه المطر ليجف وحده
وترك لك خطوات الراحلين مثل آثار نوم
حين كتبتك
نزف القلم عطرا
وغصت الورقة بأسمائك القديمة
كان الزمان واقفا
يراجع ذاكرته
اعترف
لم اعد احتاجك
لكنني اشتاقك كما يشتاق الباب صوت الطرق
وكما تشتاق المرايا
ملامح من رحلوا
تظنينني نسيت
لكنني ما زلت اخبئك
في درج السرير
بين تذكرة قديمة)
في عالم تغلفه أنسجة الغربة والشتات، يخاطبنا لوركا پيراني بنص طاعن بالحنين، طافح بالعشق يستحضر من خلاله نبض وطن تعبر عنه ذكريات وأحاسيس لا تنضب.
في “رائحة الخطى” يظهر تجسيد عميق لعلاقة الشاعر بأرضه، مدينته الهادئة سري كانية ووجهتها التي تسترجع الذكرى ..رأس العين، تلك السيدة التي حملتها الذاكرة بألمٍ مفعمٍ بالحنين، ينبض النص بعشق دفين لامرأة تحولت إلى رمز دفء ومرساة للروح، فامتزج فيها شوق الوطن بلُغة العشق التي تعانق كل حرف وذرة من الذاكرة.
“رائحة الخطى” قصيدة تأملية تفصح عن حالة من الترنم الحسي، إذ يبدأ لوركا پيراني باستحضار صورة الذاكرة كرصيف مهجور، يحمل آثار خطوات من ضاعت في زوايا النسيان. هنا، يختزل الشاعر الزمن في لحظة واحدة، ليتحول الماضِي إلى مرآة تعكس تفاصيل عشق لا يزول رغم البعد والاغتراب. تلك الذاكرة ليست مجرد سجل للأحداث، بل هي طقس شعري يختزل فيه الحنين إلى تراب الوطن الذي سقى الروح بمياهها العذبة وأشجارها الوارفة.
وفي إطار آخر، يتداخل حب الوطن مع شوقه لأنثى تنامت في مخيلة الشاعر كرمز للدفء والحنان، فالصورة الشعرية “حين كتبتك نزف القلم عطراً” تحمل انطباعاً متعدد الأبعاد، حيث يصبح الحرف قنطرة تربط بين عشق الأرض وحنين قلب لا يفتر، بين عمق الانتماء وبريق اللقاء الذي يضج بصوت الذكريات.
في هذا المزيج الساحر، تتلاشى الحدود بين الحنين للوطن وبين العاطفة الرقيقة لتتحول كل صورة، كل نسمة، وكل همسة إلى رموز تتحدث عن ألم الفراق وسحر اللقاء.
يبرز النص أيضاً حالة من الصراع الداخلي، إذ تتجلى تناقضات الحياة بين رغبة الشاعر في نسيان الآلام وحتمية الاشتياق التي تقضي على كل محاولة للنسيان، إذ يشبه شوقه لصوت الطرق الذي لا يخبو، ويصفه بشوق المرايا لملامح من رحلوا، مما يعكس تأرجح المشاعر بين النفي والاحتفاظ بلمحات الهوية. هذا التداخل بين ما يسترد من الماضي وما يحلم به يصبح ميداناً للصمود والتمسك بجذور الهوية الثقافية، حتى وإن أدرك الكاتب أن كل الذاكرة تتركه مرتاحاً وفي انتظار لقاء لا محالة.
تختتم القصيدة بإشارة رمزية إلى “درج السرير” و”تذكرة قديمة” و”ريشة حمامة”، حيث تجمد اللحظات وتنحتها في عمق الوجود، لتكون بمثابة شهادة حية على أن الوصال بين القلب والأرض هو رحلة مستمرة، لا يمكن أن تنطفئ فيها شمعة الوجد مهما طال الزمن. هنا نجد أن الكتابة تتحول إلى وسيلة علاجية، ومذكرة للماضي التي تستحضر في كل سطر إيماناً بأن الهوية، مهما تشتت مظلاتها، تبقى مرسومة في قلوب من لا يستطيعون التخلي عن حكاياتهم.
تكتمل رحلة النص في “رائحة الخطى” حين يصبح القلم شاهداً على اللقاء الأبدي بين حنين الوطن ولمسة العشق الخالدة في الذاكرة. يتراءى الشاعر كصانع للذكريات، ينحت من الكلمات معاني الانتماء التي تتغلغل في داخل كل عاشق لتراب يحمل بين جنباته قصة وفصولاً لا تنتهي. في هذا المزيج النادر بين صوت الأرض همسات العاطفة، يذكرنا لوركا پيراني بأن الحب الحقيقي لا يفنى، بل يخلد في قصائد تغني للهوية وتوقع للعودة إلى جذور لم تزل تنبض بالأمل، مهما اشتد الشتاء في نفوس المغتربين.
بهذا، تبقى “رائحة الخطى” رسالة سامية للعالم تثبت أن في قلب كل غربة نبض لا يخبو، وحين يلتقي الحنين بالعشق تنبثق قصائد تصنع معالم الهوية تخطو بثبات نحو المستقبل.