سقف توقّعات

عبدالحميد جمو

مررتُ في حياتي، إن صحّت تسميتها “حياة”، بالكثير من الخيبات. لم يسبق لي أن دخلت معركة وخرجت منها منتصرًا؛ كلّ النّزالات التي خضتها في حياتي المفروضة كانت هزائم.

أولى الهزائم كانت مع ولادتي، حين هاجمني القدر في نزال غير متكافئ، فسلب روح والدي ولم أبلغ بعدُ عامي الثاني. ومن هنا بدأت انكساراتي.

ثم توالت الهزائم. كنت أنهزم في الألعاب التي كان أبناء الحي يتكاتفون فيها ضدي ويقصونني منها مهزومًا، وعلى وجوههم علامات النصر، بينما أنكمش على ذاتي تواسيني دموع عيني.

أثناء لحاقي بالمدرسة، كان التلاميذ يسيرون في مجاميع، يتجهون نحو حانوت “عمو كوركيس” يشترون ما يحلو لهم، وأنا أنظر خلسةً لما بين أيديهم، وأدس يدي في جيبي الخالي والمثقوب أصلًا.

هُزمتُ في كل السجالات والمناقشات التي كانت تدار بيننا بعد أن بلغنا سن الرشد. أصبحنا شبابًا، ولم يلتفت أحد إلى رأيي. وإن كنت صائبًا، كانت الكفّة دائمًا راجحة لمن لديه نفوذ. كانوا يمدحون بعضهم ويستهزئون بآرائي.

حتى بعدما أصبحت شابًا يعتمد على نفسه في العمل، كان بعض “الأصدقاء” يستغلون نقطة ضعفي، يمدحونني بالكلام المعسول الذي افتقدته طيلة حياتي، ثم يستغفلونني ويقضون سهراتهم على حسابي، بينما يحتفظون هم بما في جيوبهم.

أثناء تأدية الخدمة الإلزامية، رغم أنني كنت ذو هيبة والجميع يهابني، كنت أشعر بالرهبة أمام أبناء بلدي، كنت أخاف دائمًا أن يذكروا تاريخ هزائمي.

حتى في الحب… هُزمت.

هزمتني أحلامي، كسرني أخي وأبناء عمومتي، هزمتني أختي وكل من أعرفهم. كنت، وما زلت، أتلقى الهزائم على أيديهم.

في مضمار الهزائم وكيل الانكسارات، خرجت بعِبرة واحدة: ألا أرفع سقف توقّعاتي. ففي الحياة العمليّة، عرفت أن للراتب حدًا يقف عنده، لا تستفيد بعده من العلاوات. يسمّونه “سقف الراتب”. ومهما بقيت على رأس العمل، لن تحظى بعلاوة إلا نادرًا، وإن حصلت فستكون ناقصة.

عند هذا الحد، وضعتُ حدًّا لكلّ مكنوناتي من مشاعر وأفكار وأحلام.

حين أرى أبنائي يحقّقون إنجازاتٍ عجزتُ أنا عن تحقيقها، يرقص قلبي فرحًا، أشعر حينها أنّني انتصرت لأوّل مرّة. ومع ذلك، لا أبوح بما في داخلي، فهناك ما يمنعني من إظهار فرحتي. أكتفي بالمباركة لهم ببرود، لكن ما يسيل على خدّي يترجم ما يجول في خاطري، وأعتقد أنهم يستطيعون قراءته.

لذلك، أتعجّب كثيرًا من الذين لا حدود لسقف توقّعاتهم. أعرفهم جيّدًا: مهزومون مثلي، بل أكثر منّي. كيف لهؤلاء أن يشعروا بتلك الغبطة، وهم محكومون بالسراب؟ على ماذا يعوّلون؟ ما هي المكتسبات التي جنوها حتى يحيطوا أنفسهم بهذا الكمّ من التفاؤل؟

من خلال تجاربي، وبعيدًا عن الاستسلام، أضع حدًّا دائمًا لما أحققه من مكتسبات. لا أتفاخر بإنجازاتي العقيمة، ولا أرفع سقف توقّعاتي التي لا أجد فيها ما يدفعني لبناء مملكة أحلامي المنهارة.

لا أستبق الأمور أبدًا، وهذا ما علّمتني إيّاه هزائمي المتكررة. في مباريات كرة القدم مثلًا، لا أنحاز لفريقٍ دون آخر، أكتفي بالمشاهدة  والمتابعة، حتى تُحسم النتيجة ويُعلن الفائز.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

إنَّ الهُوِيَّةَ في العملِ الأدبيِّ تَتَشَكَّل مِنَ الأحلامِ الفَردية ، والطُّمُوحاتِ الجَماعية ، والتَّجَارِبِ الشَّخصية ، والإفرازاتِ الثقافيةِ ، والعواملِ النَّفْسِيَّة ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى وَضْعِ العَملِ الأدبيِّ في أقْصَى مَدَاه ، وإعادةِ إنتاجِ السُّلطة المَعرفية مِنْ مَنظورٍ اجتماعيٍّ قادر على اكتشافِ دَوافع الشَّخصيات ، ودَلالةِ الألفاظ ،…

ماهين شيخاني

“وزارة شؤون اللافتات”

في أحد الأقاليم، تم تأسيس وزارة اسمها: وزارة شؤون اللافتات والشعارات الوطنية.

مهمتها الوحيدة: تغيير شعارات الأحزاب كل 6 أشهر، وإطلاق مصطلحات جديدة مثل: “الخط الثالث المعدّل”، أو “النهج المتجدد الثابت”.

كانت لافتاتهم تسبق أفعالهم، وحين يُسأل الوزير عن خطط الوزارة يقول:

– نحن نؤمن بأن الشعارات تُغيّر الواقع، أما الواقع؟ فمسألة ثانوية!

 

إبراهيم اليوسف

 

تمثل رواية” فرح خاتون*” الصادرة عن دار الزمان للطباعة والنشر، تجربة سردية ذات طابع استثنائي، تمتزج فيها السيرة الفردية بالسياق الجمعي، وتُروى الذات الكردية لا عبر صراع سياسي مباشر، بل من خلال جسد مريض وذاكرة محاصرة بالموت والعزلة. تدور الرواية حول فرح عبد الكريم عيسى علي، المرأة التي تكتب من سرير المرض في مستشفى…

في زمن يبحث فيه العالم عن المصالحة والتفاهم، يعد ديوان الشعر

“Aştî تعني السلام” من تنگزار ماريني علامة مضيئة للأمل. النسخة الثنائية اللغة – باللغتين الكردية والألمانية –

تدعو إلى عدم التفكير في السلام فحسب، بل أيضًا إلى الشعور به ومشاركته.

قصائد ماريني رقيقة وقوية في آن واحد.

تحكي عن الرغبة في عالم أفضل، وعن ألم الذكرى،

وعن جمال التعاون….