حاورها: إدريس سالم
ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة يوماً؟ هل نمتلك الجرأة في أن نكتب عن أنفسنا، ونعلن نحن – الكتّاب – في أننا مرضى نفسيّون، مدمنو الكتابة والقراءة، في زمن السطحية والتباهي وعقدة النقص؟
سهير محمّد خير المصطفى، روائية وكاتبة سورية، من مدينة حمص، وُلِدت عام 1985م في بلدة مهين. مقيمة حالياً في تركيا، من أعمالها في الأدب:
- «رأفة بي»: رواية صادرة عن دار ببلومانيا للنشر والتوزيع، عام ٢٠٢١م، بعد فوزها في مسابقة «كاتب الشهر»، المنظّمة من قبل الدار، في العام نفسه.
- «حقيبة سفر»: مجموعة قصصية صادرة عن دار آيلا للنشر الحر، عام 2022م، ومتوفّرة رقمياً على كوكل بوكس ومكتبة نور وفول بوك، وغيرها من المكتبات الرقمية.
- «قيد الحواس»: كتاب شعر وخواطر صادر رقمياً عن دار أسرد للنشر الإلكتروني، عام 2023م، ومتاح للتحميل المجاني.
- «رقعة الشطرنج»: رواية صدرت عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع، عام 2024م، وهي ثاني أعمالها الورقية.
درست سهير المصطفى المعهد الصحّي، واختصّت في الصيدلة، ومارست العمل لمدّة اثنتي عشر سنة، في مستوصفات ومشافي بلدات حمص. تمتلك خبرة جيدة كمساعدة طبيب أسنان، وهي المهنة التي تمارسها حالياً في مدينة قيصري التركية. تحبّ الرسم كهواية، في اللحظات التي يعجز فيها القلم عن الكتابة ومواجهة الواقع، إلى جانب حبّها للموسيقا الكلاسيكية. تجيد اللغة العربية والإنكليزية والتركية. تكتب الرواية والشعر والقصّة القصيرة، وتقرأ الأدب الواقعي والاجتماعي والإنساني.
التقى موقع «سبا» الثقافي، مع الكاتبة السورية سهير المصطفى، في هذا الحوار الخاصّ، عن الوطن والأدب والمرأة واللجوء، عن الانتماء والحقيقة في ظلّ الجريمة والقانون، فكان معها هذا الحوار وهذه الأسئلة:
سوريا.. حضورها وآلامها:
هل سوريا بلد العجائب؟ ولماذا برأيك؟
نعم! سوريا كانت وما زالت بلد العجائب، ولا ننسى تاريخها العريق، وكلّ الأحداث التي قامت على أرضها، التنوّع الشعبي فيها والمجتمع الفسيفسائي، الذي تتكوّن منه رقعتها، ومنذ أن قامتِ الحرب فيها وحتى هذه اللحظة ما حدث فيها وما يحدث لم يتكرّر في أيّ بلد عربي آخر بهذه الصورة؛ شعبها جبّار وقادر على الاستمرار في الحياة مهما ساءتِ الظروف.
- من وجهة نظرك كروائية، ما الذي حدث في سوريا: فتنة أم رغبة شعبية في الحصول على حياة، لا استبداد فيها ولا مظاهر للجهل؟
ما حدث بداية في سوريا، كما حدث في أيّ بلد عربي آخر، تمرّد فيه الشعب على القيود التي كانت تكبّله، شعب أراد الحرّية الفكرية وحرّية اختيار المصير، ولكن شاعتِ الفتنة، وكانت مفتعلة لأجل إحباط الثورة وتحويل مسارها وتغيير أهدافها.
- الكثيرون من الكتّاب السوريين – الكرد والعرب – تناولوا الثورة السورية وأبعادها السياسية والجغرافية والاقتصادية، وتأثيراتها على الإنسان. ماذا هدفْتِ من تناولك لهذه الثورة أيضاً؟ أين سهير المصطفى منها؟ والشرق الأوسط أبحاجة إلى تطوير العلم وتنمية الثقافة بشكل فعلي وواقعي أكثر، أم بتخطيط الثورات والمظاهرات؟
الهدف الأول منها هو تعريف جيلنا الحالي، الذي تربّى في الغربة على واقع سوريا، وما حدث خلال السنوات الماضية، وما آلت إليه، شيء من التاريخ وددت ذكره وتخليده من خلال رواية تعرض وقائع وأحداث حقيقية عايشتها وسمعت بها من المحيط.
الشرق الأوسط بحاجة إلى وعي وعلم غاب عنه؛ بسبب سياسات مجحفة ووضع اقتصادي يجعل المواطن في الشرق الأوسط همّه كيف يتدبّر حياته ومعيشته، ولا يجد وقتاً كافياً ليتقدّم فكرياً، كان بمعزل عن الحرّية، التي تعلّمه كيف ينتقد، كيف يعترض، ويعبّر عن رأيه في كثير من المجالات، يحتاج إلى الوعي ليستطيع قيادة ثورة وحياة.
- «أن تكون مواطناً يعني أن ترتدي قناعاً يحدّد رؤيتك ووجهتك وحتى هدفك».
في سوريا هل كان للمواطن وجود أو ضرورة؟ لم بات الإنسان الشرقي يلتقي ويتفاعل مع إنسانيته ووجوديته بين الكتب؟
في سوريا لم يكن للمواطن ضرورة، بقدر ما له من وجود فعلي على الأرض، كان مجرّد رقم في قطيع كبير، عليه أن يطيع وينفّذ القوانين، يرسمون له المستقبل كما يريدون، قدراته محدودة وإبداعاته كذلك، بسبب القيود المفروضة عليه، الإنسان الشرقي يجد وجوده وإنسانيته بين الكتب؛ لأنه يرى فيها ما لم يستطع التعبير عنه أو عيشه.
اللجوء والمرأة.. همّ ودم:
- لماذا اللجوء يورث بالدم والهمّ؟
اللجوء يورث بالدم، فمَن عاش لاجئاً سيرث أبناؤه ذلك، ويعيشون لاجئين في بلاد لم يعرفوا غيرها، كما حدث مع الفلسطينيين سابقاً، وما يحدث الآن مع أبناء سوريا في المهجر، ستبقى هوية اللجوء ملاصقة بهم أينما حلّو، وستبقى عائقاً لهم وهمّاً يثقل كاهلهم.
- لم يصعب على المتشبّث بالذاكرة والنوستالجيا التأقلم مع الواقع الجديد، كما حصل مع شخصية العمّ أبو شادي، الذي كان يصارع الذاكرة والحنين إلى ابنته؟
أبو شادي، لم يكن مجرّد متشبّث بالذاكرة والنوستالجيا، بل كان يمتلك وعياً عميقاً بالماضي والحاضر والمستقبل. رغم صعوبة الواقع الجديد، لم يشعر بالعجز عن التأقلم؛ لأنه كان يرى الأمور بوضوح منذ البداية، وكان يدرك أن الثورة لن تكون طريقاً سريعاً للتغيير. بالنسبة له، الأمل لم يكن في تغيير فوري، بل في قدرة الجيل الجديد على حمل شعلة التغيير وإثبات أن الظلم لا يدوم مهما طال. رؤيته للأمل كانت مرتبطة بالقدرة على الصمود والإصرار على المطالبة بالحقوق، رغم معرفته يقيناً بالثمن الذي سيدفعونه.
- وما الأمل الذي يتمسّك به الإنسان في ظلّ الخراب والحروب المستمرّة والمتلاحقة؟ ولماذا يصرّ عليه؟ ما الأمل بالنسبة لسهير؟
الأمل في ظل الخراب والحروب هو اليقين، بأن لا ظلم يستمرّ، ولا سفك دماء قد طال للأبد، وأن التغيير قادم لا محالة، إن نحن تمسّكنا بأهدافنا ومبادئنا، القوة في الاستمرار بالعمل، لتحقيق مستقبل أفضل، حتى ولو كان الحاضر مليئاً بالتحدّيات.
الأمل بالنسبة لسهير، لي أنا، يكمن في استعادة سوريا حرّيتها وكرامتها، وفي أن ينعم أبناؤها بالحرّية لتقرير مصيرهم والعيش بكرامة، مع تحقيق نهضة حقيقية لبلادهم. لكن هذا الأمل يتطلّب عملاً عميقاً، يبدأ من تغيير النفوس؛ لأن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتحقّق، إلا عندما نؤمن جميعاً بضرورة التغيير، ونصبح مستعدّين له على كلّ المستويات.
- لماذا يفكّر الرجل بجسد المرأة حينما يحبّها؟ لماذا لا يمنحها الحبّ والدفء والأمان بعيداً عن الغرائز الجسدية؟ هذا ما تقولينه في الصفحة السادسة والعشرين من روايتك «رقعة الشطرنج».
ربما وددت أن أتساءل: لماذا لا يهتمّ الرجل إلا بالشيء المادّي؟ فالمرأة كالوطن، ليست أرضاً وحسب، وإنما فكر وعلم، الوطن أيضاً هو الإنسان وما يميّزه عن غيره من مخلوقات الله أن لديه عقل ومشاعر، لذلك كيف للرجل أن يلخّص المرأة على أنها جسد فقط في اختياره واهتمامه، ولا يحاول أن يصل إلى عقلها وفكرها وأحاسيسها النفسية، والتي هي المفتاح الذي يصل إلى قلبها، ويجعله يمتلكها بكلّها، ثم أني في الرواية كنت قد ركّزت على قضية المعتقلات والشرف وعادات المجتمع وشخصية مجد الموالية، وما كان يريده من نور، لذلك كان هذا سؤالي في الفصل الأول من الرواية؛ تمهيداً لما سأتحدّث عنه لاحقاً.
- الكتب والكتابة والقراءة يا سهير… أينصف المرأة كلّ ذلك، أم أنها بحاجة إلى اعتراف صريح وفعلي من المجتمع الذكوري، يعلن فيه على ضرورة وجودها وكينونتها، وأنها نصف المجتمع، بما يحميها جسدياً ونفسياً؟
الكتب والكتابة والقراءة، هي أشياء لا تكفي لإنصاف المرأة، بل هي بحاجة إلى اعتراف صريح من المجتمع الذكوري بقدرتها على التغيير، المرأة كلّ المجتمع برأيي؛ لأن الرجال تربّيهم النساء، المرأة هي التي تنجب وتربّي وتعلّم، المرأة أمّ وأخت وزوجة وابنة، فهل من الممكن أن ننكر وجود المرأة وأهميتها في الحياة والمجتمع؟ يكبر الرجل بين يدي امرأة، وحينما يشدّ أزره يحارب المرأة ويهمّش دورها، ويتّهمها بقلّة العقل والدين، دون الرجوع لتفسير هذا الكلام بشكل ديني ومنطقي، لكن الإسلام كرّم المرأة وحفظ مكانتها، وعلينا أن نعود قليلاً لديننا وأحكامه وآخر وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كانت «رفقاً بالقوارير».
- وهل تعتقدين أن فقدان المرأة لعذريتها قسراً يُشعرها بفقدان كمالها الأنثوي والروحي؟ كيف تفسّرين ذلك؟ وكيف تنظرين إلى وجهتَي نظر مريم ونور حيال نظرة المجتمع للمرأة المعتقلة؟
في المجتمع الشرقي فقدان المرأة لعذريتها قسراً يفقدها أنوثتها جسدياً وروحياً، وهذه كانت النقطة المهمّة، التي طرحتها في روايتي، وحاولت أن أجد تفسيراً وتبريراً لذلك؛ لأن المرأة المعتقلة لم تعانِ فقط من الاعتداء الجسدي بل والنفسي أيضاً، ولم يكن ذاك الاعتداء والاغتصاب يخصّ المرأة بل كان يطال الرجال أيضاً في المتعقلات، النظام الحاكم كان يعلم تماماً حساسية هذا الأمر في مجتمعنا المحافظ، ويعلم نقطة ضعفه، فكان يحاربه بهذه الطريقة، الشعب هنا يبدأ بمحاربة نفسه وجلدها، المرأة التي تخرج من المعتقل حيّة لا تجد مَن يحتويها من أهلها، يحاربها الجميع حتى تبدأ باحتقار نفسها ولومها على كونها أنثى، تتوارى عن الجميع كعار، تفضّل الموت على الحياة بعدها، لذلك كانت مريم ترغب في أن يسترها الموت، ولا تخرج لأهلها حاملة عاراً لم يكن بإرادتها، نور تعرّضت للاعتداء قسراً وحاولت الابتعاد عن الجميع، لكن وجود وليد في حياتها وتفهّمه لوضعها أنقذها من حرب نفسية.
النساء المعتقلات مغيّبات عن الشاشة، وقضيتهن لا تقلّ خطورة عن الحرب الدائرة، لذلك رغبت في أن أتحدّث بصوتهن، وأعبّر قليلاً عن معاناتهن.
- أبذلك تقولين وتصرّحين عن كلّ مَن يغتصب الحياة من النساء، بأن الرجل هو شرف المرأة، بعقله وحكمته واحتوائه لها واحتضانه لآلامها، أم أن لك رأي آخر؟
لا يجب حصر الشرف بالرجل أو المرأة، بل أؤمن بأن الشرف مرتبط بالإنسانية والأخلاق والقيم التي يحملها الفرد، أرى أن الرجل قد يكون داعماً حقيقياً للمرأة بعقله وحكمته، وحينما يحتضن آلامها ليس من باب الوصاية، بل من باب التقدير والمساندة الحقيقية.
والعلاقة الصحّية بينهما هي علاقة شراكة، حيث يحتضن كلّ طرف الطرف الآخر، بإنسانيته، ويدعمه في مسيرته، دون إنقاص من جهد وقيمة أحدهما، أيّ يجب أن يكون وجود أحدهما إيجابياً في حياة الآخر، لا مدمّراً ومحطّماً.
- لنتطرّق معك إلى قضية مصيرية خطيرة، لم هذه النظرة المجتمعية الدونية عن المرأة/ الفتاة المعتقلة؟ ما الدوافع النفسية والاجتماعية لهذه الظاهرة الخطيرة؟ ما الحلول التي قدّمتها سهير المصطفى عبر شخصية مريم للحدّ منها؟
سؤال ما زال يؤرّقني صراحةً، لقد أجبت في السؤال السابق، بأن موضوع الشرف أمر حسّاس بالنسبة لنا كمجتمع شرقي، ولا أنكر أهميته، ولكن المجتمع بدأ يخلط الحابل بالنابل، وينظر إلى المعتقلات بأنهن عار لمجرّد دخولهن السجن، وتعرّض البعض منهن للاعتداء الجنسي، إلا ما رحم ربّي، ربما هناك حالات فردية استطاع الأهل فيها تجاوز هذا الأمر، واحتواء ابنتهم المعتقلة بعد الإفراج عنها، ولكن بشكل عام كانت العائلات تخجل أن تتحدّث عن فتاة تمّ اعتقالها. الكثير من النساء نبذتهم العائلة والأهل، وتخلّى عنهن أزواجهن، لذلك كانت مريم تمثّل دور إحدى النساء اللواتي تمّ اعتقالهن، وخافت أن تواجه أهلها فيما بعد، حتى توارت بستار الموت، لئلا تكون سبباً في مأساتهم وتنكس رأسهم، لكنها وجدت طريقة في كتابة قصّتها وسردها لإحدى الصحفيات، كي يعلم العالم ما مرّت به، وألا تصمت على جرائم السجون، وأن تكن صوتاً لغيرها من النساء، حاولت أن تتجاوز الأمر، وتخرج إلى العالم لتبني نفسها بعد تحطّمها، لكن شاء لها القدر أن تكمل حياتها…
لا أريد أن أكمل؛ كي لا أحرق أحداث الرواية.
الانتماء والحقيقة:
- لماذا نخفي حقيقتنا ونتلحّف بها خلف ما لا ينتمي إلينا؟ ما الذي يدفعنا لئلا نظهرها ونعيش معها كما هي؟
أحياناً أحكام المجتمع ونظرته هي ما تدفعنا لإخفاء حقيقتنا، الخوف من مواجهة التحدّيات التي ستقابلنا إزاء ظهورنا بعيوبنا أو حتى هويتنا، وربما كما ذكرت في الرواية لئلا نعذّب أحباءنا بها.
- إن الأشياء الأكثر ألماً وحزنًا تبقى عالقة في سراديب الذاكرة. بم تفسّرين ذلك أدبياً ونفسياً؟
الألم حينما يزور الإنسان يترك أثره عميقاً في قلبه وذاكرته، يمرّ الوقت لحظة الألم بطيئاً جدّاً، على عكس لحظات الفرح التي من فرط النشوة بها لا نشعر بالوقت، الأوقات الصعبة التي يمرّ بها الإنسان يسهل تذكّرها؛ بسبب نشاط الدماغ آنذاك، ربما هي غريزة البقاء، التي تجعل العقل متيقظاً أكثر منه في لحظات الفرح.
- «الصمت يقتل الحبّ يا مريم، لا أريد أن أُخفي ما بداخلي وما أودّ قوله لك، الكلمات تموت إن لم نبح بها، ليس كما كانوا يقولون لنا ويخدعوننا لنُجبَر على السكوت. الصمت سُمّ العلاقات الخفي؛ يقتل المشاعر ويطفئ الروح، ما حاجتي للحبّ إن لم أبح بكلّ ما يجول في خلدي لمَن أحب؟».
أتساءل وأنا أقرأ هذا الاقتباس من الرواية، وأنا أؤمن بأن الصمت يقتل الحبّ: لم الصمت يقتل الحبّ؟ أهناك دلائل علمية وفلسفية ونفسية تثبت ذلك، أم أن الحالة ترتكز على الوضع العاطفي ومآلاته فقط؟ ما هو الصمت في الحبّ سهير؟ وما هو الحبّ في الصمتّ؟ أتحذّرين من الصمت الطويل؟
الصمت يقتل كلّ شيء؛ فهو طريقة للتعبير عن الانسحاب، فإن لم يستطع المرء التعبير عما بداخله بحرّية لمَن يحبّ لن يشعر الطرف الآخر به، والصمت حينما يحلّ بين اثنين فهو يبعد بينهما نفسياً، يضعف التواصل بينهما وتزداد الخلافات، يقودهما إلى الشعور بالوحدة وعدم الاهتمام، والذي هو الأساس في أيّ علاقة.
- أنتقل معك إلى الرواية كعناصر وتقنيات، ما الغاية من السرد الكثيف، ووصف المكان، والغوص العميق في الأفكار والمواضيع بدقّة كبيرة، لدرجة أنه ربما يؤثّر ذلك على الرواية والقارئ؟ ماذا تقولين، أو ماذا هدفت من ذلك؟
لقد تعمّدت ذلك؛ فأنا شخصياً ألتفت للتفاصيل كثيراً، وتستهويني الرواية الغنية بذلك، لأني أشعر بأني أرى وأسمع ليس فقط أقرأ، وفي «رقعة الشطرنج» أردت ألا أغفل عن تفاصيل كثيرة، حتى ولو أثّرت على الرواية؛ يهمّني أن يعرف جيلنا الحالي كيف كانت البلاد، وكيف كانت أوقاتنا وأيّامنا بتفاصيلها، لأنه لن يستطع أن يجسّدها بخياله، بعكس مَن عاش تلك التفاصيل حقيقة.
الأدب.. الجريمة والقانون:
- هل الأدب جريمة يحاسب عليه القانون؟ ولماذا؟ خاصّة وأنت تقولين أن «الكتابة جريمة يحاسب عليها القانون»؟
الأدب الحرّ يحاسب عليه القانون في بلادنا، لأنه يكشف عيوب الأنظمة وليس ذلك وحسب، بل هو أداة لإنارة عقول الكثيرين الغافلين عن مواضيع مهمّة، كثير من الكتب غيّرت وجه العالم، وأقامتِ الثورات وتأثّر بها الناس، لذلك كان من أهداف تلك الأنظمة محاربة الأدب وتقييده، لئلا يخرج أحدهم عن الطاعة.
- «في الحروب أنت لا تعيش بل تمضي الأيام عبثاً…».
إن هذا الكلام – على لسان الراوي – يؤكّد على مدى انشغالك بالقضايا الغيبية والماورائية. ما الذي يشغل تفكيرك حول المستقبل للإنسان والكتابة؟ وهل من إحساس غيبي بالانتماء إلى هوية ميثولوجية، أو لنقل هل من اغترابات لعبت دوراً مركزياً في تكوينك الروحي؟
لقد عايشت الحرب بكلّ تفاصيلها، وتهجّرت ضمن بلادي وخارجها، في الحروب لا أحد يعيش، الأحياء فقط مَن يرتقون إلى السماء، وهذا ليس ميثولوجياً أو ماورائياً بل هو حقيقة مؤكّدة، لا يستطيع الإنسان تخيّل نهاية الحرب أو التكهّن بما سيحدث بعدها، فهو يستيقظ كلّ صباح، ليجد نفسه ما زال على قيد الحياة، يأكل ويشرب وينتظر، هذا إن توفّرت له رفاهية الأكل والشرب، لا يستطيع أن يمضي وقتاً طبيعياً، غريزته في البقاء تجعله متيقّظاً مكافحاً مرهقاً.
ما يشغل تفكيري حول المستقبل للإنسان والكتابة، هل بإمكاننا أن نشمل البشر جميعاً على هذه الأرض، أم نخصّص بالإنسان في الشرق الأوسط، الذي يعاني من التهجير والغربة والحروب؟ فهم أكثر ما يمكن القلق عليهم وعلى مستقبلهم، لأنهم يكافحون للعيش.
- هل النظام الحاكم شموليّ مستبدّ ووحشي إلى درجة أن طبيباً موالياً، يقوم في مشفى عسكري بتعرية أحد المتظاهرين المصابين، ويصبّ الكحول على عضوه الذكري وإشعال النار فيه، ضاحكاً متلذّذاً بصرخاته وآلامه، ثم يقوم بعدها مباشرة بفكّ القيد عن قدمي متظاهر آخر، ويمسك بساقه وليّها بطريقة معاكسة لطبيعتها، ليسمع صوت طقطقات عظامه، لتتهاوت الساق على السرير دون حراك، فيغمى المتظاهر من الألم الشديد، ليستيقظ – تحت تأثير الكحول التي يرشّها الطبيب عليه – متألّماً متأوّهاً، ليسارع ذاك الطبيب المتوحّش، ويمسك بالساق الأخرى، ويكسرها بطريقة مماثلة؟ لماذا سجون الوطن تمارس ماسونيتها على المحتجزين كأفراد، ليطال عذابها أولئك القابعين خلف أحزانهم وخوفهم على أحبّائهم، تجلدهم عقارب الساعة انتظاراً؟
هذا السؤال يستطيع أن يجيب عليه كلّ مَن عانى في السجون، ومَن كان له معتقلاً، وإن كنت تتساءل لماذا، ففي هذا الحوار لن أجد إجابة كافية، لأن الحديث يطول في هذا الأمر.
- أين سهير المصطفى من رقعة الشطرنج؟ أهي قصّة حقيقية، أم أن ذاكرتها وخيالها مَن قاداها إلى صياغة عمل أدبي عن وحشية وسادية الأنظمة الحاكمة؟
«رقعة الشطرنج» مقتبسة من الواقع، وبالنسبة لأحداث الشارع فهي حقيقية عايشتها، مريم قصّة فتاة حقيقية لم أستطع معرفة حياتها بالكامل، ولكن يكفي أن أعرف عن اعتقالها، والرسالة التي أوصلتها لأهلها، وكيف توارت خلف شخصية أخرى، أحداث السجون حقيقية، اقتبستها من شهادات ناجيات، شاهدت فيديوهات لهن على مواقع التواصل الاجتماعي، وباقي الشخصيات خيالية، لكنها تحاكي الواقع.
———–
موقع «سبا»