عزرائيل يطعميه لطشين وشْوَيّ

فواز عبدي

إلى أخي آزاد؛ سيد العبث الجميل

في مدينة قامشلو، تلك المدينة التي يحل فيها الغبار ضيفاً دائم الإقامة، وحيث الحمير تعرف مواعيد الصلاة أكثر من بعض البشر، وبدأت الهواتف المحمولة بالزحف إلى المدينة، بعد أن كانت تُعامل ككائنات فضائية تحتاج إلى تأشيرة دخول، قرر آزاد، المعروف بين أصدقائه بالمزاج الشقي، أن يعبث قليلاً ويترك بصمة في زمن التحولات.

كانوا مجتمعين في السهرة؛ سحابة من الدخان تمنعهم من رؤية السقف، وكؤوس الشاي تتناوب على الشفاه، وورق الشدة يتطاير على البطانية المفروشة كرسائل قادمة من زمن آخر. وبينما هم مشغولون بحسابات اللطوش، والضجيج يعلو، والشتائم الودية تلطف الجو، مدّ آزاد يده إلى هاتف جاره خيرو.

لم يكن الهدف سرقةً ولا فضولاً، بل مجرد مقلب صغير لتوليد ابتسامة شيطانية.

بخفة أصابع مدرّب على المقالب أكثر من اللعب، غيّر اسمه في قائمة جهات الاتصال؛ لا آزاد، لا أبو روجان ولا ابن عبدي، بل كلمة واحدة: عزرائيل.

لم ينتبه خيرو. كان مشغولاً، يصرخ في شريكه:

 “أنت الي لحالك أكلت سبع لطوش؟ مين أكلها؟ أنا ما أكلت غير لطشين”.

ووسط ضحكات الخصوم انتهت السهرة كعادة الليالي؛ ضجيج يتبخر مع آخر نفس سيجارة، لتشتعل سيجارة أخرى مع الخروج من الباب.

لكن الليل لم ينتهِ، وإنما يتمطى مثل ثعبان كسول.

في الثالثة تماماً، تلك الساعة التي لا يثق بها أحد. حتى القطط توقفت عن المواء والكلاب عن النباح احتراماً للصمت، رنّ الهاتف.

استيقظ خيرو فزعاً، كان يحلم أنه يطير فوق سوق الخضار، فتح عينيه.. فوجد على الشاشة اسم “عزرائيل” يتلألأ.

تجمد الدم في عروقه. نبوءة غير سارة.

“شو هاد!؟ عزرائيل؟!

لا لا لا، أكيد في غلط… يمكن حلم.. معقول الشبكة خربانة؟ لا يا زلمة، الاسم صريح وواضح… عزرائيل!

يا ربي دخليك.. يا ربي بتعرف اني ما آذيت حدا.. وما أكلت غير لطشين.. أي يا ربي انت بتعرف حتى لما كذبت كنت امزح! عزرائيل؟ وساعة تلاتة بالليل؟!..”

ارتبك. نظر حوله. الجدران صامتة، السقف يراقبه. واتجه إلى المطبخ، شرب جرعة ماء، ثم أخرى. ملأ الكأس ووضعها بالقرب منه كسلاح ضد مجهول.

 حاول أن ينام، تحولت المخدة إلى قنفذ..

وفي الصباح، صار يتحدث بصوت منخفض، كأنه يخشى أن يسمعه القدر نفسه. سأل الأصدقاء، سأل البقال، سأل حتى أمه العجوز التي لا تملك هاتفاً: “شو بتعمل لو اتصل فيك عزرائيل؟”

إلى أن قال له أحدهم، وهو يعرف آزاد كما يعرف طعم الشاي بدون سكر:

ـ “ابحث في دفتر الأسماء… يمكن اسم آزاد تبخر! شوف ان كان موجود؟”

بحث، فلم يجده.

هنا انفجرت الحقيقة، ومعها انفجر الضحك في الحارة.. ضحك خيرو حتى نسي خوفه، وضحك آزاد حتى كاد يُمنع من دخول الحي إثر المطاردات. وبعد أن ازداد لهاثهما، وقف خيرو أمامه، وجهه ما زال بين الغضب والارتياح، وقال:

ـ “يا ابن الحلال… لو بدك تمزح، ليش ما كتبت اسمك: الموت قادم وخلاص؟”

ابتسم آزاد وهو يرتشف شاياً بلا سكر:

ـ “لا يا جار… لازم المقلب يكون عنده هيبة. وإلا ما بينكتب في التاريخ.”

رد خيرو وهو يقهقه رغماً عنه:

ـ “طيب بس إذا شفتني بعت الهاتف ورجعت للحمام الزاجل… إنت السبب.”

ومنذ تلك الليلة، صار خيرو يضع هاتفه في الثلاجة قبل النوم، ليضمن ابتعاد “عزرائيل” عنه، فهو لا يحب البرد. أما آزاد، فقد صار يُلقب بـ المقلبجي الفلكي؛ لأنه لا يعبث فقط بالأسماء، بل بالزمن، والقلوب، وحتى الأحلام.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لَيْسَ الاستبدادُ حادثةً عابرةً في تاريخِ البَشَرِ ، بَلْ بُنْيَة مُعَقَّدَة تَتكرَّر بأقنعةٍ مُختلفة ، وَتُغَيِّر لُغَتَهَا دُونَ أنْ تُغيِّر جَوْهَرَها . إنَّه مَرَضُ السُّلطةِ حِينَ تنفصلُ عَن الإنسانِ ، وَحِينَ يَتحوَّل الحُكْمُ مِنْ وَظيفةٍ لِخِدمةِ المُجتمعِ إلى آلَةٍ لإخضاعه .

بَيْنَ عبد الرَّحمن الكواكبي (…

عبدالجابر حبيب

 

يا صديقي

بتفصيلٍ ثقيلٍ

شرحتُ لكَ معنى الأزقّةِ،

وكيفَ سرقتْ منّي الرِّياحُ وجهَ بيتِنا الصغيرِ،

لم يكنْ عليَّ أن أُبرِّرَ للسّماءِ

كيفَ ضاعتْ خطواتي بينَ شوارعَ غريبةٍ،

ولم يكنْ عليَّ أن أُبرِّرَ للظِّلالِ

كيفَ تاهتْ ألوانُ المساءِ في عينيَّ،

كان يكفي أن أتركَ للرِّيحِ

منفذاً خفيّاً بينَ ضلوعي،

أو نافذةً مفتوحةً في قلبي،

فهي وحدَها تعرفُ

من أينَ يأتي نسيمُ الحنينِ.

كلُّ ضوءٍ يُذكِّرُني ببيتِنا…

غريب ملا زلال

يتميز عدنان عبدالقادر الرسام بغزارة انتاجه، ويركز في اعماله على الانسان البسيط المحب للحياة. يغرق في الواقعية، يقرأ تعويذة الطريق، ويلون لحظاتها، وهذا ما يجعل الخصوصية تتدافع في عالمه المفتوح.

عدنان عبدالقادر: امازون الانتاج

للوهلة الاولى قد نعتقد بان عدنان عبدالقادر (1971) هو ابن الفنان عبدالقادر الرسام…