“فنجان ناقص”

آناهيتا م شيخاني

 

لم أستيقظ كعادتي على صوت المنبّه،

ولا على وقع أقدام أبي المتعجلة،

ولا على صدى صوتها من المطبخ… ذاك الذي ظلّ يزورني في الأحلام فقط.

استيقظت على صمتٍ ثقيل.

صمتٌ لا يشبه أي صباح عرفته.

رفعت رأسي ببطء.

كل شيء في مكانه، تمامًا كما تركته الليلة الماضية… لكنّه بدا باهتًا، غريبًا، وكأن الحياة قد مرّت من هنا ثم غادرت.

نظرت من حولي.

الجدران تنظر إليّ،

الساعة تدقّ،

لكن الوقت لا يتحرك.

ثم سمعت صوت أبي، ينادي أسماء إخوتي واحدًا تلو الآخر، بصوته المألوف الذي يشبه الوطن.

انتظرت أن يُنادي اسمي.

لكنه لم يفعل.

سرت نحوه، سألته بهدوء:

“أبي… ما بك؟ لماذا لا تناديني؟”

لكنّه لم يسمعني. لم يلتفت. لم يشعر بوجودي.

كأنني لم أعد من هذا العالم.

في داخلي، حاولت تبرير الأمر:

ربما لأني تأخرت.

ربما هو غاضب كعادته…

لكنني ابتسمت بمرارة:

لا بأس، على الأقل لم يوبّخني هذه المرة.

في المطبخ، كانت أختي تحضّر القهوة.

تفوح رائحة الهيل في أرجاء المنزل.

جلست في ركننا المعتاد،

لكن على الطاولة كان هناك فنجان واحد فقط.

نظرتُ إليه طويلاً…

أين فنجاني؟ لماذا لم تحضّره؟

كانت تحدّق بالكرسي المقابل، بنظرة طويلة، ثابتة، فارغة.

كأنها تنتظر أحدًا تعرف أنه لن يأتي.

رن جرس الباب.

صديقتي جاءت، بعد طول غياب.

استقبلتها أختي بعناقٍ صامت.

انتظرت أن تسأل عني…

لكنها لم تفعل.

سارت خطواتها بتردد نحو غرفتي،

توقفت أمام سريري،

نظرت إليه كما يُنظر إلى ضريح.

دمعت عيناها، ثم مسحت وجهها بسرعة، كأنها تحاول أن تمحو الذكرى.

اقتربتُ منها…

نظرت إلى سريري،

كان هاتفي هناك، ساكنًا، لا يرن.

وحين حدّقت في شاشته،

اكتشفت أن التاريخ قد مضى… بأيام، بأسابيع؟

لا أعلم. لقد تجاوزني الزمن.

أردت الصراخ. أردت أن أُسمعهم صوتي.

لكنني لم أعد أملك صوتًا.

وفجأة…

امتلأت الغرفة بنورٍ خافت،

ورأيت مَن ظننتُ أنني لن أراها مجددًا.

أمي.

أمي التي رحلت منذ أعوام.

كانت تقف هناك، تمامًا كما أتذكرها،

تمدّ ذراعيها لي،

تبتسم تلك الابتسامة التي كانت تُذيب برد أيامي.

نادتني بصوتها الحاني:

“تعال يا روحي… تعال.”

تقدّمت إليها.

عانقتها كما لو أنني أعود إلى رحمها.

انسكب كل الحنين دفعةً واحدة.

ذابت جدران الواقع، ولم يبقَ سواها.

ثم نظرت إلى المرآة في زاوية الغرفة.

توقفت.

رأيتني…

لكنني لم أكن أنا.

كان هناك ظلٌّ شاحب، بلا ملامح،

ينظر إليّ كما يُنظر إلى من غادر لتوّه.

عندها فقط،

فهمت.

هذا هو السبب في أن لا أحد ناداني.

هذا هو السبب في أن الفنجان كان ناقصًا،

وأن الكرسي كان فارغًا،

وأن الهاتف لم يرن.

 

لقد رحلت.

 

لقد حملتُ نفسي،

وغادرتُ دون وداع.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…