فراس حج محمد| فلسطين
في النص الأخير قلت شيئاً شبيهاً برثاء النفس، وأنا أرثي أصدقائي الشعراء:
كلّما ماتَ شاعرٌ تذكّرتُ أنّني ما زلتُ حيّاً
وأنّ دوري قريبٌ قريبْ
ربّما لم يُتَحْ للأصدقاءِ قراءةُ قصائدهم في رثائي المفاجئ
وها هو الشاعر والناقد محمد دلة يغادر أصدقاء على حين فجأة، ليترك خلفه “فارسه الغريب” ونقده المتوسع في قصائد أصدقائه ونصوصه. محمد دلة يغادر كما يغادر الشعراء، مخلفاً السؤال الكبير مطروحاً: هل يموت الشعراء برحيل أجسادهم؟ أنا لا أصدّق أنّ شاعراً سوف يموت. هل أواسي نفسي وأصدقائي بذلك؟ لا أظنّ فالشعراء ها هم باقون، نرى أثر النار المقدسة في كتبهم ونصوصهم، يستعادون كل حينٍ.
ما بيني وبين أبي يزيد ليس قليلاً، لكنه كافٍ ليكون صديقاً، بيننا الشعر وحرفة الكتابة، عندما أبلغني زياد خداش بالخبر، جاء منبها قوياً، لا لين فيه، جملة وحيدة صاعقة “مات الدلة”. شعرت كأنّ شيئا فيّ اهتزّ، ها هو شاعر آخر يرحل، وأقرأ نعيه، حادثت زيادا باتصال هاتفيّ، ودار حوار قصير حول الدلة، إنه كان مريضاً منذ مدة، لم أكن أعلم، فاستغرب خداش، أليس صديقك؟ نعم إنه صديقي، لكن عادتي القبيحة ما زالت ترافقني أنني أختلي بنفسي، ولا أسأل عن أحوال الأصدقاء.
في واحدة من زياراتي لمعرض رام الله الدولي للكتاب المقام عامئذ في المكتبة الوطنية، طال بي المقام في المعرض، ورغبت في المبيت، فتشت عن مبيت، توفّره لي وزارة الثقافة، فلم أفلح، فتبرع الدلة بأن يستضيفني معتبرا أن البيت بيتي، ترحيب فلاحيّ أصيل، بما أعهده في قرانا الفلسطينية. لم أشأ أن أثقل على الدلة، وأفسد عليه ليلته، وخلوته، فآثرت العودة إلى القرية.
لم ألتق بالدلة بعدها إلا في أروقة المعرض، في زاوية “دار الأزبكية” التي أنشأها ويديرها، وبعد مدة عندما شارك بتوقيع ديواني “على حافة الشعر… ثمة عشق وثمة موت” في مقهى حنظلة برفقة الأعزاء: حسن عبادي ود. أحمد رفيق عوض، وحضر ثلة من الأصدقاء، وكان منهم زياد خداش نفسه، كان ذلك في الثامن عشر من آذار عام 2023.
كان لقاء أدبيا جميلا، كنا عائلة أدبية تجمع الوطن من أقصاه إلى أقصاه، كان مفعما بالحب فعلا. لقد أراني الصديق الدلة نفسي على ضوء ما أفاض به حديثا عن الديوان وما فيه من جماليات. في ذلك اللقاء جلست مع الدلة عن قرب، ولم أكن قد ضمنا مجلس قبل ذلك.
على أثر مناقشة الديوان، اتصلّ بي الدلة بعد يومين أو ثلاثة، ليستضيفني في “الأزبكية” لعمل أمسية شعرية للديوان وصاحبة، وباستضافة صديقنا ابن حيفا المحامي حسن عبادي، أخبرت الشاعر الدلة أن حسن مسافر، ونرتب الأمر بعد عودته، ولكن ثمة مشاغل أفسدت ذلك اللقاء، ولم أكن أدري أن المرض يتربص بالشاعر ينهش أيامه ويقضمها على مهله.
لكنْ، لم يكن هذا كل شيء، يعود إليّ أيضا زياد خداش وهو يكتب عن ديوان محمد دلة “مرثية الشاعر الغريب، ويعده نموذجاً “لنص الحب في مشهد الشعر الفلسطيني” (عُمان، 8/1/2025)، ليطلب مني أن أشارك برأيي في هذا المقال، لأكتب له حول تجربتي في كتابة نص الحب، أسعدتني المشاركة بلا شك، فأنا بضيافة الأصدقاء خدّاش والدلة، ولحسن حظي فعلا أنني أقتني ديوان الدلة، فقد حصلت عليه من مكتبة الرعاة في رام الله، ولم أكن أعرف بعد سبب ترجمته للعنوان “Elegy of the stranger knight”.
بتاريخ 3/12/2024، تستضيف العزيزة كوثر الزين في برنامجها “الصالون الثقافي” الشاعر والناقد محمد الدلة. أستمع للقاء بكل تأكيد، لأكتشف من بين ثنايا اللقاء أنه لم يكن شاعراً وناقدا فقط، بل كان مترجما أيضاً، وتشاء الأقدار أن أتحدث مع حسن عبادي ليخبرني أن الشاعر إحسان موسى أبو غوش يهديه نسخة من ديوانه “دمعة تخدع ظلها” مترجما إلى الإنجليزية تحت عنوان “A Tear Deceives Its Shadow” وهو من ترجمة محمّد دلّة.
وليس هذا وحسب، بل إن محمد دلة إضافة إلى صفاته الثلاثة شاعرا وناقدا ومترجما، يضيف إليه صفة الناشر، عن وعي لدور الناشر الثقافي، وأتذكر ما قاله عن مقر الأزبكية إننا لا نمنع أحدا من “سرقة” أي كتاب من المكتبة، فهي مشاع لمن أراد أن يقرأ. كان يؤمن بصنعته، وبدوره ليستحق فعلاً لقب “المثقف”.
رحم الله أبا يزيد، فقد زاد فضله على المثقفين وفاض بحسن أدبه ومتعة صحبته، فنم بسلام يا رفيق، فأنا إلى الآن لا أستطيع أن أصدّق أنّ شاعراً يمكن أن يموت! لعله يعلم ذلك، فقد افتتح ديوانه بقوله: “أهديك جلاد القصيدة أحرفي/ لتدكّ مجدكْ/ أنت الفناء وأحرفي/ ستعيش بعدكْ”. إنها ستعيش أيها النبيل الإنسان…