نارين عمر
” حين آخر المدن” عنوان رواية مطبوعة للكاتبة والشّاعرة زينب اسماعيل خوجة،
عنوان يثير فينا عدة تساؤلات، فلا ندري إن كانت تقصد بها مدينتها الصّغيرة عامودا والتي تصفها كاتبتنا بالقول: ” عامودا مدينة الألف شاعر والألف مجنون كما تكنّى”، أم هي أوّل مدينة ألمانية “زارلويز” التي وصلت إليها مع أولادها بعد رحلة بحث عن حياة أخرى وجديدة، أم أنّ هناك مدينة أخرى أرادت أن تكون هي الأخيرة بالنّسبة لها؟
يبدو أنّ كاتبتنا أرادت أن تدغدغ فكرنا وخاطرنا بهذا العنوان لكتابها لتحثّنا على سبر أغوار أحداثه الشّيقة والتّعرف على كلّ الشّخصيات الواردة فيه الرّئيسية منها والثّانوية لأنّها حاولت أن تعطي كلّ شخصية حقّها من الاهتمام والرّعاية ثانوية كانت أم رئيسة، ومع تسارعها حيناً أو تباطؤها حيناً آخر وفقاً لنبض كيانها الذي يتأرجح بين الهدوء والصّمت وبين الصّخب والصّراخ نراها تربط بينها باقتدار دون أن تدع الملل يتسلّل إلى فكرنا.
براعة زينب في الكتابة لا تظهر فقط في رصانة الكلمات وعمق معانيها بل في قدرتها على ربط الأحداث ببعضها البعض بأسلوب شيّق يحثّنا على الغوص في عمقها باندفاع وجاذبية وكأنّنا أمام فيلم سينمائي حيث تتوالى الصّور والأخيلة أمام ناظرينا وخاطرنا وكأنّها تحدث في لحظتها أو كأنّنا عشنا الأحداث وتعايشنا معها حقاً؛
فعندما تتحدّث عن ولادة ابنها فرهاد وتصفه بعينيّ الأمّ المفعمة بالحبّ والوداد من ناحيه جماله البريء وعينيه العسليتين، ثمّ مرضه الشّديد الذي أفقده الكثير من روح الحياة نشعر وكأنّنا كنّا معها وهي تحمل طفلها بين ذراعيها لتوصله إلى المشفى وهي حافية القدمين وكاشفة الشّعر على الرّغم من حرصها على لبس الحجاب، كونها من أسرة متديّنة وتربّت على قيم الدّين والشّريعة، ثمّ وبطريقة ذكية تربط مأساتها مع طفلها بمآسي أمّهات عامودا بلدتها الصغيرة حين افتعلت أجهزة النّظام حينها في عام 1960 حريق سينما عامودا الذي أدى إلى استشهاد أكثر من 200 طفل فيها بالإضافة إلى خلق تشوّهات للأحياء منهم. من خلال تذكّرها لحريق سينما عامودا وتصويرها لحال الأمّهات تريد أن تذكّرنا بهول الفاجعة التي تحاط بالأمّ حين يحاول المرض الاقتراب من طفلها والفتك به.
حين تتحدّث زينب عن نفسها نلاحظ وبشكل جليّ أنّها تحرص على أن تظهر لنا أنّها تمثّل كلّ امرأة كردية بقوتها وصبرها وسعيها المتواصل في التّغلب على كلّ مصائب الحياة ومصاعب العمر وإزالة الأشواك والمعوّقات من دروبها في مجتمع ما يزال يرى المرأة ناقصة عقل أو ضعيفة أو سلعة تباع وتشرى حيث تقول:
“بدأت حكايتي عندما اختارتني السماء لاختبار صعب جداً، وتركت لي القرار لأنجح فيه أو أفشل، لذلك لازلت أحبو محاولة التشبث بكل الخيوط التي تهرب من قبضتي حتى لا أفقد البوصلة
إلى نفسي، لأصل أو ربما لن أصل، ولكن الجميل في الأمر أنني لم أرفع حتى الآن رايات الهزيمة في معركتي التي أراها هيّنةً جداً أمام معارك الإنسان المقيّد إلى مصيره دون أن يكون له الخيرة في أمره، وإن كان ثمة شيء ما يجعله بطريقة أو بأخرى مسؤولاً عن ذلك المصير”. الصّفحة 29, 30
ولكنّها لا تنسى أن تذكّرنا بأنّها ونساء جيلها ما يزلن يخضعن لأعراف وقوانين مجتمع ذكوري بامتياز على الرّغم من التّطورات والتّغييرات الهائلة التي طرأت على المجتمعات والشّعوب وخاصة إثر الثّورة التّكنولوجية التي ألقت بظلالها على مساحات واسعة من المعمورة، لتؤكّد لنا على أنّ:
“الزمن مذكر
والدهر
وهكذا العام
والعقد
والقرن
كلهم
نفوا أن تكون التاء وبناتها
سواء الساكنة أو المبسوطة أو المربوطة تملك زمام أمرها
رغم أن القواعد الأربعين للعشق
لم تكن لتكتمل لولاهن
ورغم أن للأنثيين أيضاً حق
ورغم أنها لا تضار مولودة
ورغم الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان
ورغم رفقا بالقوارير
والتي جاءت تجادلك في زوجها ورغم امرأة فرعون وعمران
وبراءة عائشة ورغم سورة النساء وسورة الطلاق ومريم إلا أن الضمائر تتجافي ليس خشية إنما زيادة في اللؤم،
على غير هدى
إلا أن تلك التاءات أيضأ سبب لكل تلك الشرور، فتاء واحدة كفيلة لإجهاض ثورة كل التاءات الأخرى”. الصّفحة 99
لا تنسى الكاتبة أن تذكّرنا برحلة هروبها من الوطن إلى ديار الغربة ممتطية أمواج الصّعاب والشّدائد مع أطفالها الثّلاثة ومدثّرة بزوابع هجرة لم تكن تخطر ببالها ولا ببال معظم أفراد شعبها ولو في أحلامهم. تلك الزّوابع الموبوءة بطعم الموت وعلقم الفناء من خلال ربط موفّق بين مجريات الحياة في الوطن الذي كانت تعيش فيه والبلاد التي لجأت إليها، لتصف مأساة شعبنا أينما كانوا وأينما حلّوا، وتركّز على مآسي الفارين من الموت واللاجئين إلى مأوى يقيهم من صقيع الموت، ومعاناتهم في المخيّمات وما يتعرّضون لها من أنواع المذلة والهوان من قبل المشرفين على هذه المخيّمات.
نجد كلّ هذا لدى حديثها عن زوجها ولحظات امتطائه لقوارب الموت مع مئات البشر مثله:
“زوجي الذي أتقن قبلي معنى أڹ يغـادر وطنا وذاكرة وثلاثة من الأطفال وتفاصيل أخرى كثيرة، لجأ كما الكثير من السوريين إلى اوروبا قبل تسعة من الأشهر بحثاً
عن حياة أفضل له ولنا
عن طريق قوارب الموت
الني سخرت من أرواح كثيرة
وعلمتهم الموت غرقاً
لكل من اعتقد أنه نجا من الرصاص والقنابل والنحر والحرق حياً”
لعائلتها وللكثير من عائلات عامودا نصيب من الحديث في ذاكرة زينب، كما للحبّ وعشق الصّبا والشّباب حكاية جميلة في بدايتها ولكنّها مؤثرة وحزينة في نهايتها كما معظم حكايات وقصص العشق الحقيقيّ في مجتمعنا الذي تحكمه عادات وأعراف من الصّعب التّخلص منها.
في رواية “حين آخر المدن” ترصد لنا زينب خوجة أحداثاّ وحكايا أخرى تمسّ واقعنا المعاش كما هو، بعد أن تضيف عليه بين الحين والآخر نفحات مّما تختزنه ذاكرتها أو ما تبوح به مخيّلة الغد والمستقبل.
بهذه الجمل المصوّرة أو الصّور النّاطقة بوجع الواقع تنهي الكاتبة روايتها وهي تتحدّث بوجع عن القضية والاتجار بها لدى شرائح من الشّعب، ورفع الشّعارات التي لا تفيد بشيء، وتضعنا في الجوّ العام والواقع المؤلم للشّعوب المغلوبة على أمرها:
“في النهاية لا فائدة لرفع شعارات لترميم وجع أو شعارات لنصر قضية، لأنه وباختصار كل شعار لترميم الوجع إنما هو طريق لوجع آخر جديد، وكل شعار لنصرة قضية ما هو إلا تمهيد لخسرانك تلك القضية، فقد رأيت الكثير من حاملي الشعارات، رأيتهم بملابس وأحذية لم أرها في المحل الذي يبتاع منه الشعب
الصنادل الرخيصة، ورأيت معاصمهم تلفها ساعات لا نملك منها
محلات في ما يسمى وطن ورأيت سحناتهم قد تحررت من ملامح
جوع لم يعرفوه وكأنهم ما مر بهم صوم يوم، ورأيت بجعبتهم الكثير من الكلام الذي كتبه بائعو القلم لبائعي القضية، الكلام
الرديء بنكهة وطنية، الملفوف بوعود هائلة
كوابل لم تجد به السماء يوماً، ورأيت خلف حاملي تلك الشعارات شعباً كاملاً تصطك أسنانه بردا وهو يهرول خلف سيارة اشتكت من اتساخ عجلاتها بعرقهم
ورائحة دمائهم ودموعهم…” الصّفحة 100
……..
* زينب اسماعيل كاتبة وشاعرة خوجة كردية من مدينة عامودا، كانت مدرّسة مساعدة للغة الفرنسية في عامودا، وهي من مواليد 1977
تكتب الشعر ولديها رواية “حين آخر المدن” بالإضافة إلى أعمال أخرى تنتظر الطباعة والنشر.
متزوجة ولديها بنت وصبيّان
تعيش في ألمانيا.
* “حين آخر المدن” رواية صدرت عن دار المصورات للنّشر والطّباعة والتّوزيع. الخرطوم، شارع الشريف الهندي المتفرّع من شارع الحرية 2021