‏مؤتمر توحيد الرؤية الكردية والتحذيرات الخُلَّبية

بيمان حسين

ما حدث في 8 ديسمبر من عام 2024، على قدر جماله وروعته، كان شيئا غير متوقع على الإطلاق. فحلم الانعتاق والتحرر من نير النظام القمعي كان حلما تطلب تحقيقه مهرا غاليا من التضحيات اللامتناهية.

في أعرافنا وثقافاتنا، نربط الأشياء غير المفهومة بالقدرة الإلهية، ولكن في هذا الموضوع بالتحديد، هناك رغبات وقدرات أخرى غير إلهية كان لها التأثير الأكبر على ما حدث، بل وقادت حدوثه لحظة بلحظة، ألا وهي الرغبة والقدرة الدولية. فواقع سوريا لم يتغير منذ بدء الثورة؛ إذ إن الداعمين هم أنفسهم، والقيادات هي نفسها، والمعارضون — على اختلاف مسمياتهم وتياراتهم — هم أنفسهم. ولكن المزاج الدولي لم يعد يحتمل غباء النظام البائد في تفويت الفرص السانحة لتسوية الأزمة وتسليمه البلد، ذو الموقع الجغرافي المهم، للروس وأتباع الملالي. الأمر الذي أدى إلى حدوث توافقات وتفاهمات دولية مهدت وأسست للإطاحة بالأسد، فشاهدنا ما شاهدنا من سقوط للمدن الواحدة تلو الأخرى كأحجار الدومينو.

بعد إسقاط النظام، بدأت مباشرة مرحلة خلط الأوراق وتقسيم الكعكة من قبل الجميع، ورأى الغرب أنه حان الوقت لتقليم أظافر الحليف التركي وتقزيم دوره، الذي كان كبيرا في دعم الجماعات الجهادية التي أسقطت الأسد، وذلك باتخاذ موقف حازم تجاه تهديدات تركيا للكرد في سوريا بحجة محاربة الإرهاب. فلا يخفى عن القاصي والداني الدور الذي قامت به تركيا في تغذية الإرهاب في سوريا والعراق.

يريد الغرب حرق الورقتين اللتين تلجأ إليهما تركيا في ابتزازه، ألا وهما: ورقة اللاجئين، وقاعدة إنجرليك التي تبتز بها تركيا الناتو كلما دق الكوز بالجرة.

في الفترة التي سبقت سقوط الأسد، شهدنا جولات عديدة لمظلوم عبدي بين قامشلو وأربيل والسليمانية، كما شاهدنا زيارات مكثفة من وفود أوروبية، ووساطة وزيارات من وفود القيادة الكردية في كردستان العراق إلى تركيا، لنقل الرسائل بين الجانبين والعمل على تقارب وجهات النظر، وتبديد المخاوف، ونسف الحجج، وإذابة الجليد بين الدولة التركية والساسة الكرد في تركيا. وتُوِّج هذا أخيرا بدعوة عبدالله أوجلان أتباعه إلى إنهاء النزاع المسلح، والتوجه نحو السياسة والنضال السلمي في سبيل نيل الحقوق المشروعة للكُرد في تركيا.

ولا يخفى على أحد أن هذه الدعوة تمت بعد عدة لقاءات ومداولات بين الدولة التركية وممثلين عن الحراك السياسي الكردي في تركيا، بدعم كبير من القيادة الكردية في كردستان العراق، إلى جانب الدعم الغربي. وعلى أثر هذه الرسالة، بدأت الغمامة بين الكُرد السوريين والسلطة الجديدة في دمشق تنقشع شيئًا فشيئًا، إلى أن تُوِّج ذلك بتوقيع “اتفاق الشرع – عبدي”.

من المعلوم أن تركيا تمارس دور الوصاية، والسلطة الحالية تحاول، وبشتى الوسائل، أن تجعل الوجود التركي وتدخل تركيا في الحياة السياسية لسوريا الجديدة شرعيا، فالشرع يقول ويفعل ما تملي عليه تركيا، وخاصة فيما يتعلق بالكُرد.

الرغبة الدولية كانت السبب في انعقاد مؤتمر توحيد الصف والرؤية الكردية في 26 نيسان، وليست الرغبة الكردية للأسف. فكل جانب يرى نفسه الممثل الشرعي والوحيد للشعب، وهذا يذكرنا تماما بما حدث قبل عقود عندما أجبر الأميركيون الحزبين الكرديين الكبيرين في العراق على التوافق.

توحيد الصف الكردي والرؤية الكردية في سوريا تأخر 14 عاما منذ انطلاق الثورة السورية، حيث كان لكل طرف رؤيته وأهدافه ووسائله وتحالفاته. أما الآن، فهناك لأول مرة توافق بين هذه القوى على المطالب التي يريدون من السلطة في دمشق الاعتراف بها وتحقيقها، وهذه المطالب، في رأيي، تحصيل حاصل، بالرغم من التحذيرات التي أطلقتها الرئاسة السورية، والتي رفضت أهم مطلب اتفقت عليه القوى السياسية الكردية، ألا وهو الفيدرالية.

الإدارة الجديدة تعرف تمامًا أن عليها القيام بخطوات ملموسة على أرض الواقع حتى تلقى القبول من المجتمع الدولي. وما عجزت عنه هذه الإدارة حتى اللحظة هو إثبات الانفتاح على المجتمع السوري ومكوناته، ويتجلى ذلك في عدة أمور:

  1. التناقض الفاضح في الإعلان الدستوري؛ ففي الوقت الذي تنادي فيه مسودة الإعلان بأن الجميع سواسية وأن حقوق الجميع محفوظة، تلغي حق البعض في الترشح للرئاسة، إذ يشترط أن يكون الرئيس عربيا سنيا (بحسب المسودة التي تم إقرارها).

  2. نسبة مشاركة النساء في الحكومة الجديدة تكاد تكون معدومة (امرأة واحدة فقط).

  3. تسليم مناصب عسكرية لأشخاص ذوي خلفية جهادية وغير سورية، ما أثار حفيظة الغرب وأميركا وحتى بعض الدول العربية.

  4. العجز عن ضبط العناصر العسكرية ومنعها من ارتكاب الانتهاكات، كما حصل في الساحل.

علاوة على ذلك، فإن الخلفية الجهادية لأحمد الشرع وبعض وزرائه كانت السبب في أنه لم يقم حتى الآن بزيارة العراق، رغم وجود العديد من الملفات المفصلية التي يشترك فيها البلدان.

الرغبة الدولية هي التي ستجبر الشرع على الموافقة على هذه المطالب الكردية المدعومة أميركيا وأوروبيا، وسيجد الأتراك أنفسهم مضطرين لتقبل هذا الواقع والعمل على تحسين العلاقات، خصوصا التجارية، مع المناطق الكردية في سوريا، على غرار العلاقة مع كردستان العراق. فالمناطق الكُردية هي الأكثر استقرارا من الناحية الأمنية، وتوفر إمكانات كبيرة للاستثمار والتبادل التجاري، وفرصا هائلة تغري الشركات الأجنبية — وخصوصًا التركية — خاصة إذا تم حل المسألة الكردية في تركيا بشكل جذري، وهذا ما يتوقعه الكثير من الكُتاب والمراقبين والمحللين قريبا.

أما الأمر المهم الآخر، والذي يلعب دورا حيويا في دعم الغرب وأميركا لمطالب الكرد، وتحديدا الفيدرالية، فهو وجود القواعد العسكرية في المناطق الكردية.

القواعد التي أنشأتها أميركا والتحالف الدولي تخدم أهدافا متعددة، ولكن تركيا تدرك تماما أن الهدف الأبعد من هذه القواعد هو منعها من ابتزاز الناتو عبر منع الطائرات من استخدام قاعدة إنجرليك ذات الموقع الاستراتيجي، كما تفعل كلما حدث خلاف مع الحلف (وهذا يحدث كثيرا). فتركيا قد تمنع طائرات الناتو من استخدام أجوائها وقواعدها، لكنها لا تستطيع منعها من استخدام القواعد والأجواء في سوريا. ومواقع هذه القواعد تخدم الناتو وأهدافه في المنطقة أكثر مما تفعل قاعدة إنجرليك، وبذلك يُسحب البساط من تحت الأتراك في هذا المجال.

خلاصة القول: إن الذين سمحوا وخططوا للإطاحة بالأسد، هم أنفسهم الذين يهندسون مستقبل المنطقة، ويعيدون بناء الاستراتيجيات والتحالفات، وتوزيع الأدوار، بما يخدم مصالحهم. وقد شاءت الأقدار أن تتقاطع بعض هذه المصالح مع مصالح الكرد في المنطقة، وعلى السيد أحمد الشرع أن يعي هذا الأمر تماما.

Hussen , Biman

0049 17 62 45 07 535

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…

د. سرمد فوزي التايه

 

عندما تُبصر عنوان “فقراء الحُبّ” للكاتبة المقدسية رائدة سرندح، والصادرة عن دار فهرنهايت للنشر والتوزيع عام 2023، تُدرك أنَّ هناك أُناساً فقراء يفتقرون إلى الحد الأدنى من مُتطلبات الحُبّ كوسيلة من وسائل العيش الرغيد على وجه البسيطة، فتراهم يقتاتون ذلك الفتات على أملٍ منشود بأن يغنوا يوماً ما من ذلك المعين حتى…