عبد الستار نورعلي
أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار الورشة/بغداد 2023 .
ظ على التسمية أنّ الكاتب أطلق عليها اسم قصة، لا رواية قصيرة. لكننا حين نقرأها وبعدد صفحاتها – حوالي 50 صفحة -، إضافة الى حكايتها الطويلة نسبياً، والمؤلّفة من أحداث كثيرة مختزلة، تدور حول حدث محوريٍّ واحد، مرّ بها بطل الرواية (جوامير) وهو الشخصية المحورية، وشخصيات أخرى عديدة، لها دورها في الأحداث والبناء التركيبي المؤثر، وفي مسيرة البطل حياةً، و تصاعداً للأحداث وتطورها متفاعلةً معها، وبهندسة معمارية فنية البناء، سردية الأداء، فإنها والحالة هذه؛ ولخصائصها الفنية: حبكةً (بداية، وسط/عقدة، خاتمة/نهاية)، وأحداثاً وشخصياتٍ، وأسلوباً وعرضاً وسرداً. وبالنظر الى أنَّ سلسلة الحوادث التي تجري في القصة متصلة ومرتبطة برابط السببية فيما بينها، ولا تنفصل عن الشخصيات، متأثرة بها ومؤثرة فيها، وأنّ القاصّ يعرض علينا شخصياته، وهي متفاعلة ومترابطة مع الأحداث، ومع بعضها البعض، ووجودها ضرورة لمسيرة الرواية وموضوعها وتطورها، ومهمة في سير الأحداث، وبطل الرواية، ولا تنفصل عنها بأيِّ وجه من الوجوه، فإنّه يمكننا أنْ نضعها جنساً أدبياً تحت مسمى (روايةً قصيرةً).
إضافة الى كلِّ ما أسلفنا أعلاه، فإنّ ما يدعم هذا أيضاً كثرة الأحداث وتكثيفها، وتركيزها من خلال الضغط، والابتعاد عن الإفاضة والهوامش الفائضة عن حاجة الحكاية وسيرها وسياقها المتنامي؛ وهي ناتجة عن ادراك الروائي بأنه عليه أنْ يعمل على عدم إلقاء القارئ في متاهات الترهُّل السردي الفضفاض، ومقابض السأم. وكلُّ هذا من أجل توفير الوقت والجهد للقارئ المهتم، وربطه بالحكاية، وشدّه بإحكام، وحنكةٍ ومهارة اليها، دون ضجر ولا ملل من التفاصيل الفائضة المحشوّة حشواً عشوائياً، والتي لا تخدمها فنيّاً وتقنيّاً.
الحكاية حدثت بمحافظة واسط/مدينة الكوت، وهي قصة الشخصية المحورية (جوامير)، وما مرَّ به من أحداث عظيمة التأثير على حياته العائلية الشخصية، هو ووالدته، حيث ألقت الشرطة القبض عليه بسبب نشاطه السياسي أثناء الانتفاضة الشعبانية/ آذار 1991. فبعد سجنه لبضعة أشهر صدر قرار تسفيره (تهجيره) الى إيران بحجة عدم امتلاكه شهادة الجنسية العراقية، وأنه فارسيٌّ. هُجّر هو وأمه، ليعاني الكثير في منفاه القسري ظلماً وعدواناً، ولأسباب سياسية محضة، حيث ماتت أمه هناك، وكانت تتمنى أنْ تُدفن في وادي السلام/النجف. ثم يذكر في سياق سرده حملة التهجير التي تعرّض له الكرد الفيليون (وهو منهم) عام 1980 إثر الحرب العراقية الإيرانية، وما تعرضت له العائلات المنكوبة، التي هُجّرت قسراً وظلماً الى إيران بدعوى التبعية الإيرانية، وما لاقوه من ويلات ومعاناة، ومصاعب ومخاطر جمّة، ومشاقٍ في طريق مسيرهم أثناء عبورهم الحدود بين أراضٍ مُلَغمَة، وليكونوا عرضةً للوحوش الكاسرة، وقُطّاع الطريق، ومشقات وتضاريس الأرض والجبال القاسية.
يَعرِض القاصّ مؤيد عبد الستار بسردٍ مُحكَم، ولغةٍ رصينة مُعبِّرة بدقةِ احترافية فنيّة، واسلوب يحمل في طياته فنَّ الإثارة، وشدِّ القارئ للأحداث والوقائع والصعاب، وطرق المسير الخطرة، وأهوال الطريق، ومعاناته هو وأمه في المنفى القسري، وما لا قوه هناك منْ شظف العيش وقساوة الغربةً، حتى وصل الحال الى وفاة أمه، التي كانتْ تحلم أنْ تُدفَن في مقبرة السلام في النجف الأشرف. كما ظلّ متعلّقاً مرتبطاً عاطفياً بوطنه، يحنُّ ويتحمّلُ نوازع الشوق الجارفِ لوطنه، وخطيبته ابنة عمه التي تركها خلفه، ومِنْ حبّهالشديد لها كان يحتفظ برسالة قديمة أرسلتها اليه تبوح بحبها وتوقها الى يوم زواجهما.
وبسبب هذه المعاناة فكّر وخطّط للعودة الى وطنه العراق، باصرار وتصميم وتحدٍ للصعاب، والى مسقط رأسه الكوت، وعن طريق التهريب، وباسم مستعار (جمال) مشتق من اسم جمال عبد الناصر؛ كي لا يجلب الانتباه. دبّر له المهرِّب هويةً مزورة، لتبدأ مغامرة العودة المحفوفة بالمخاطر والخوف، والصعوبات والتعب والجوع، والحذر الشديد؛ خشية الوقوع بين براثن رجال الأمن العراقيين، فلا يرحمونه.
يمزج القاصّ مؤيدعبد الستار في روايته بين الحدث الذاتي والحدث التاريخي والاجتماعي، بين ما تعرّض له البطل (جوامير)، وتعرّض له الوطن والناس تاريخياً واجتماعياً. إذ يمرُّ من خلال سرد الأحداث والشخصيات على تاريخ احتلال الإنجليز للعراق، وما فعلوه في الجنوب من مآسٍ واعتداءات على الناس، دون وازع من ضمير أو أخلاق، وفي ذلك إدانة للاحتلال، وما يجرّه من ويلات، ولعلاقة سببية بين الاحتلال ذاك وبين ما جرى للعراق بعده. وذلك من خلال الشخصيات الكبيرة في السنِّ التي يذكرها القاصّ، والتي تذكر تلك الأيام. وكذلك يسرد بعضاً من الأحداث التي تعرّض لها معارضو النظام البعثي السابق من السياسيين وغيرهم، منْ خلال ذكر شخصية أبو سلمان واعتقاله ثم إطلاق سراحه، دون أنْ يعرف السبب، وقد تمّ اطلاق سراحه بناءً على تدخل بعض وجهاء مدينة الكوت. وهو بهذا يعرض تاريخ فترة من العراق ألقى بظلاله السود ورياحه العاتية على طيفٍ من الشعب العراقي (الفيليون) اذ أنّ بطل الرواية من الفيليين، فيقول:
” لاشك ان غاية السلطات كانت كسر شوكة المعارضين لها ، وتهديدهم بالتسفير الى ايران بحجة اصولهم الفارسية”
” كان الحرس اسوأ ظاهرة عرفتها مدينة الكوت” (الحرس القومي)
كما يسرد لنا من خلال القصة (الرواية) بعض الوقائع اليومية المعيشية للعامة من الناس والبسطاء، وأصحاب الأعمال والمهن، وما كانوا يعملون في حياتهم، مثل التهريب بين ايران والعراق/محافظة واسط المجاورة لحدود ايران، وما كان هؤلاء يتعرضون له من حوادث يومية، وما يتحمّلون من صعاب ومشقات في سبيل توفير لقمة العيش لهم ولعوائلهم. وهذا جانب تاريخي اجتماعي لحياة العامة من الناس يعرضه القاص في الرواية.
وكما ذكرنا أنه بقصته هذه يمزج بين التاريخي والواقعي الاجتماعي الناتج والمتأثر بالوضع السياسي في البلد. ولكثرة الأحداث والشخصيات فإنها تقترب كثيراً حبكة وتقنيةً وحجماً (50 صفحة) من فنِّ الرواية، وعليه يمكن درجها تحت جنس الرواية القصيرة. فلو فصّلها بالسرد أكثر، وبالمرور على حياة هذه الشخصيات العديدة، والأحداث التي مرّوا بها، لكان بإمكانه أن يحوِّلها الى رواية طويلة تاريخية اجتماعية سياسية.
يسرد القاصّ في قصته هذه كلَّ تلك الأحداث والشخصيات بواقعية تقترب من السحرية إثارةً واسلوباً وفنتازيا، مع أنّ الساردَ لم يتدخّل في مسار الحكاية ليضع بصمات خياله الفانتازية فيها، فهو لم يختلق ما يبتعد عن الواقع المعاش يومياً، من المخزون في ذاكرته، فيستعيد ما تمتلكه مما عاشه القاصّ مؤيد عبد الستار، والتي وقعت وتقع للناس في محيطه وبيئته عموماً ضمن سياقات التاريخ السياسي والاجتماعي الواقعي، والتي عشنا وشاهدنا عياناً الكثيرَ منها، فهي ليست غريبةً على العراق وتاريخه المضطرب المليء بالوقائع والمآسي والنكبات غزواً خارجياً، واضطراباتٍ وتقلبات وانقلابات داخلياً.
يُقسّم القاصّ روايته الى فصول تحت عنواين وهذا عنصر آخر يجعلها من جنس الرواية والقصيرة منها:
تسفير، قافلة الحساوية، القاء قبض، مشهد ايروتيكي في زقاق ضيق، الهجع، شهادة، لقطة جانبية، بعيد المدى، مولوي، مجلس وداع، البدوي، رحلة قرمزي الأخيرة، الى بدرة، حادي العيس.
الرواية قيد القراءة تسجيل فنيٌّ أدبي لصراع الإنسان بين ما يقع فيه من مشاقِّ وأهوال وبين حبّه لوطنه وحبيبته التي تركها في العراق، وحلمه في العودة الى مسقط رأسه وحبيبته؛ لتعلّقه الشديد بهما؛ فهما جزءٌ لا ينفصم منه وهو أيضاً جزء وصورة منهما. لذا قرّر العودة الى وطنه سرّاً، مصمّماً على مواجهة الصعاب والمخاطرَ والعقبات بشجاعة وتصميم واصرار. فهي تجمع بين الحدث الشخصي والحدث التاريخي.
يُنهي الروائي روايته بنهاية مفتوحة فيها الإثارة شديدة الوقع؛ مما يمنحها أثراً ناحتاً في نفس القارئ، بحيث تبقى في ذاكرته، بعد ما لاقاه جوامير في طريق عودته وهو يتوجّه الى مدينته الكوت بحلمٍ وأملٍ، إذ ترك الكاتب للقرّاء أنْ يعيشوا مع الحكاية، ويُشغلوا أخيلتهم ليضعوا النهاية التي يتوقعها كلٌّ بحسب تأويله. وفي هذه النهاية مهارة وحنكة وحرفية فنيّة من ساردها وكاتبها في هذا القالب المُحكَم العناصر، فنّاً وكتابةً وأسلوباً ولغةً، ورصانةً أدبية في الأسلوب. إضافةً الى كلِّ ذلك فإنَّ مسحة التراجيديا واضحة عليها، فيما تعرّض له البطل، وغيره من الشخصيات، ومن الأحداث والوقائع التي مرّ بها العراق وشعبه عبر تاريخه الحافل بها. وكذا تظهر في الرواية مسحة من الكوميديا الساخرة، خاصة في فصل (مشهد إيروتيكي في زقاق ضيق).
ولهذه المعطيات والمحدِّدات كلّها، وما تحتويه قصة (تسفير)، وما تمتاز به من خصائص فنية هي من عناصر واشتراطات ومحددات الرواية، فإنها رواية قصيرة، رغم أنَّ كاتبها الأديب مؤيد عبد الستار أشار اليها بتسمية (القصة) فحسب.
تشرين الأول 2024