مزامير العميان

عبدالجبار حبيب

 

في الأزقةِ القديمة،

حيثُ الغبارُ يُعيدُ رسمَ الوجوه،

والمقابرُ تُنبتُ أسماءً جديدة،

وقفَ صلاحُ الدينِ

بينَ جنازتين،

واحدةٌ له،

وأخرى لرايةٍ شاختْ

قبل أنْ تُرفرفَ طويلاً.

 

حينَ نزفتِ الشمسُ

من جراحِ الصامدين،

وحملَ الهواءُ

رائحةَ الحديدِ المحترق،

كانَ للصهيلِ ذاكرةٌ

لا تَشيخ،

وكانَ للسيوفِ أصابعُ

تُعيدُ خَلقَ الخريطة.

 

لكنْ، في الأزمنةِ المتأخرة،

حينَ ضاعتِ الخرائطُ

تحتَ أقدامِ الغزاةِ،

رأى صلاحُ الدينِ

رايتهُ

في أيديٍ لم تعرفِ النصر،

وسيوفَهُ

تُباعُ في المزاد.

 

أيُّ ليلٍ هذا،

حيثُ المماليكُ الجُددُ

يبيعونَ أسلافَهم؟

 

أيُّ لعنةٍ

حينَ يتسابقُ السلاطينُ

لحمايةِ عروشٍ

بَنَتْها سنابكُ الغرباءِ،

ويرفعونَ شعاراتٍ

لم تُروَ بدمِهم؟

 

من لا ينتفضُ

حينَ تُباعُ الأوطانُ

كأوانٍ خزفيّة،

من لا يشتعلُ وجدانهُ

حينَ تُداسُ وصايا الشهداءِ

بأحذيةِ السوقةِ والجلّادين،

ثمَّ يُقاتلُ

دفاعاً عن شعارٍ مهترئ،

وعن اسمٍ

لم يُجرِّبِ الفداءَ يوماً،

هوَ عبدٌ

لنارٍ بلا دخان،

لريحٍ

تحملُ رائحةَ الهزيمة.

 

في الأزقةِ ذاتها،

يُعادُ ترتيبُ المشاهد،

يُصنعُ إلهٌ جديدٌ

من رمادِ المحارق،

يُعطى اسماً

ويُلبسُ ثوباً

ويُقالُ لهُ: كُن.

 

 

على أسوارِ المدينة،

حيثُ وقفَ صلاحُ الدينِ

ذاتَ نصر،

يُرفعُ اليومَ عَلَمٌ غريبٌ،

وتُقرأُ صلواتٌ

بهمهماتٍ مُبهمة،

كطلاسم ساحرٍ أعمى،

يُحركُ شفتيه بلا لغة،

فيتبعُه القطيعُ

دون أن يُدركَ الطريق.

 

لا تعرفُ ظلالَ القادمين،

ولا يعلو على الأسوارِ

إلا أصواتُ السحرةِ

ودُخانُ البخورِ الأسود،

الصاعد من جلباب الإله الجديد.

 

من يطفئُ هذا الليل؟

 

في كلِّ ساحةٍ

ثمّةَ مقصلةٌ لم تَبرد،

سيفٌ يبحثُ عن رقبةٍ جديدة،

ورأسٌ يتدحرجُ

نحوَ جوقةِ المادحين.

 

في كلِّ مئذنةٍ

ثمّةُ إلهٌ يُعادُ تصنيعه،

بملامحِ السوقِ

وخطاباتِ العسكر،

يُلبسُ عمامةً

أو قبّعةً

أو خوذة،

ثم يُتركُ فوقَ المذبحِ،

ينتظرُ المصلّين.

 

أيُّ نارٍ

تلكَ التي لا تنطفئُ

ولو بصقتَ عليها

دمكَ كلّه؟

 

أيُّ ريحٍ

تلكَ التي تحملُ وجوهَ المذبوحين

ولا تعيدُها إلى أهلها؟

 

أيُّ موتٍ

هذا الذي يُطلُّ كلَّ صباحٍ

بوجهٍ جديد،

بصوتٍ جديد،

بفتوى جديدة؟

 

صلاحُ الدينِ،

في المدنِ التي فتحَها،

يُباعُ اسمُهُ

كحكايةٍ قديمة،

ويُوزّعُ مجدُهُ

بينَ مزاداتِ السياسةِ

وخطاباتِ المنافقين.

 

عذراً يا صلاح الدين،

تُركَ التاريخُ

للرُّعاةِ الجُدد،

يرعونَ أحلامَ الموتى

بأسنانٍ من ذهب،

ويعيدونَ رسمَ الخرائطِ

كما يشتهي

زعماءُ الكهوفِ المتهدِّمة.

 

آه يا صلاح الدين،

سقراطُ ماتَ على أبوابِ الحرب،

سبارتاكوسُ التهمتهُ نيرانُ الذهب،

والمصلوبونَ

ما زالوا يُعادُ تثبيتُهم على الخشب،

 

ونحنُ ما زلنا

نُصلبُ ونُجلدُ،

يبدو

إننا نعيشُ

زمنَ الجلادِ الأول،

يا سيدي… يا صلاح الدين.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

 

العمل الفني ذكي جداً ، بل و أذكى من صاحبه الذي ما إن ينتهي منه حتى يركن نفسه إلى تأملات تستوطن دواخله ، و بصمت منتشياً بتلك التأملات الجوانية المرافقة لعوالمه الداخلية التي لا تنفك لتجره إلى الإيغال في متاهات الخلق و الإبداع ، أما هو و أقصد العمل الفني فيبدأ بالضجيج و…

بدعوة من لجنة الأنشطة في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، وممثلية اتحاد كتاب كردستان سوريا، أقيم يوم التاسع من آذار في قاعة كاريتاس بمدينة إيسن الألمانية حفل توقيع المجموعة الشعرية الأولى للشاعر حفيظ عبدالرحمن، التي جاءت تحت عنوان “خلخال الكلام”، بحضور جماهيري كبير من الكتاب والمثقفين ومحبي الشعر.

أدار الندوة الكاتب علوان شفان، الذي…

إبراهيم محمود

 

إلى متى سنعترف للحجر الصوان

أننا أكثر قسوة منه بما لا يقاس

لنرى هذا المريع بصلابته النازفة كراهية قاهرة

لنضع أيدينا على تلك الشرارات التي تطلقها ذاكرتنا المقدامة

 

 

إلى متى سنقدم اعتذاراً لهذا لمسمى وحشاً خارجاً

أننا أكثر إراقة دماء وافتراساً يسمياننا

أكثر من مخالبه وأنيابه التي تظهران عند الضرورة القصوى

لنعاين لا ما يحصى من المخالب والأنياب التي نفعّلها هنا…

ولات محمد

 

ويُشعل الشموعْ

بالرغم أن الريح أقوى بكثيرْ

وأن نارَها ضعيفةٌ أمامَ العاصفهْ

سندفن الأحزان في الضلوع

ونُشعل الشموعْ

بالرغم أن العتمَ أقسى بكثير

وأن ضوءَها الكئيبَ لن يبدّدَ الظلامْ

ونزرع الشموعْ

لأنهم “يحاولون دفننا

ويجهلون أننا بذورْ”(*)

وتكثر القبورْ

والشهداءْ

أرواحُهم في كل آذارَ تعانق السماء

لكننا

على القبورْ

نغالب الدموعْ

ونزرعُ الزهورْ

سنوقد الشموعْ

في الموت والحياهْ

في الحزن والسرورْ

في الليل والنهارْ

ليس لأن وعينا مريضْ

لا، بل لأن في صدورنا قلوباً تكره الظلامْ

وكالفَراشِ…