د. محمود عباس
تبدأ بتقاطعات غريبة بين التخيل والواقع، بين اللا طبيعي مع الطبيعي، بين البناء المنطقي على أسس ذهنية إنسانية وحوادث أشباح خارج المنطق، بعضها تهدف إلى تدمير مفاهيم موبوءة في المجتمع، وأخرى لا غاية معروفة لها، تبحث في اللا تعيين، لواقع اجتماعي اقتصادي مدمر بطفرات فكرية تقتل الحقيقة، تسيل إلى نهايات دون مستوى التوقعات، فتظهر الرواية كصرخة من على قمة جبل تنتهي بصدى باهت ضمن وديان النهاية.
من لم يقرأ عدد من روايات سليم بركات، يكون قد خسر متعة من طفرات الفكر الأدبي، ولا أعني بها الأدب من حيث جمالية اللغة وسلاسة السرد فقط وهذه سمة من سماته الأكثر من معروفة للجميع، بل الذهنية والمدارك العصرية المبنية على الخيال الغريب في رواياته، حتى ولو أن بعضها تتمة لمدارس سابقة.
أتممت قراءة الرواية الرابعة، للكاتب، قبل سنتين قرأت سبايا شنكال، وفي سنوات قامشلو قرأت الجندب الحديدي، والأخيرة لا تدرج ضمن ما أود التوقف عليه، وباختصار، ولست هنا بصدد نقد متن وحبكة الروايات.
واليوم انتهيت من فقهاء الظلام، العنوان المثير لرواية غير منطقية لحياة اجتماعية منطقية، ودحض لواقع سياسي مفروض على أمة.
كما نعلم، معظم رواياته وهذه في المقدمة، صارخة بأسمائها، وهو الكاتب الغني عن التعريف والمتمكن من وضعها، مثلما يضع الخيط الخفي لغاية رئيسة ما بين دفتي الكتاب، من ابتذال الإرهاب الإسلامي في كلية رواية سبايا شنكال، إلى الرباط الجدلي الطبيعي، والتي عكست لدي كقارئ كل أبعاد المجتمعين، بين شمال وجنوب كوردستان تحت خلق التواصل الغريب بين دغل وأحراش قرية هلالية ومدينة نصيبين، في صفحة من صفحات نهايات الرواية، و(ربما) أكون قد خلقت مقصدا للكاتب، غير ما ابتغاه الكاتب ذاته، وهو نفي الخط الحدود السياسي الفاصل بينهما.
الروايات الأخيرة التي قرأتها تبدأ بطفرة فكرية غريبة، شدتني إلى تناولهم واحدة بعد أخرى، رغم قراءتي لكتب أخرى مرافقة، لكن ظلت هي المسيطرة على الساحة اليومية لمطالعاتي، وعلى الأغلب سأتابع تناول روايات أخرى.
وما دفعني لكتابة هذا المقال، هو الرابط الغريب المشترك بين الروايات التي قرأتهم، والتي جلبت استغرابي، رغم أن كل واحدة دفعت بي، بل جرتني، لأقلب الصفحات وراء بعضها، وبتسارع، راكضا خلف المشاهد والمفاهيم التي يطرحها على جوانب الحدث الرئيس الخارج عن المنطق والطبيعة البشرية، وكأنها تتمة أو أطراف تنبثق من جسم الطفرة الفكرية الغريبة، متابعا القصص الجانبية التي لا تخلو رواية منها، دون التمكن من بلوغ نتيجة حول غاية الكاتب من كتابة رواياته بهذه البنية الذهنية.
والاستغراب في السمة شبه المشتركة بين اللواتي قرأتهم، فكل واحدة تبدأ بحدث غريب شاذ، في زمان ومكان معروفين، والأغرب هي قدرته على خلق التقاطع الجميل بين الفكرة غير الطبيعية والواقع الطبيعي، لكن المؤسف فيه أن الطفرة كثيرا ما تضمحل بعد الثلث الأول أو بعد منتصف الرواية، إلى درجة شعرت وكأن الكاتب القدير يفرغ من الأفكار، بعد عرض كلية الطفرة، فيحاول المسيرة بخلق قصص من العدم كتتمات للحدث الرئيس، يمدد بها الرواية، أو أنه ينوه القارئ أن روح الطفرة حية ولا تزال تفرض ذاتها، لكن في الحقيقة بهذه الانزياحات تدخل الرواية في التكرار وسردية دون مستوى البداية، حتى عندما يحاول أن يخلق أفكار شاذة جديدة على نسق الأولى، لكنها تظهر باهتة أمام الفكرة الرئيسة.
ففي رواية (سبايا شنكال) كان بإمكانه التخلص من التكرار الذي أصبحت أدرك ما سيقوله بعد كل مشهد، وقد كنت أتوقع بأنه قد ينقل الرواية بخيال متشعب إلى طفرة أغرب ربما تكون في روابي شنكال أو من عوالم خياله، وينهي الرواية بصدمة للقارئ، لكنه أنهاها بروتين بسيط، لم تكن على مستوى المتن وبعيدا عن جمالية الحدث اللا طبيعي لوقائع إجرامية جرت في شنكال البعيدة عن مكان مجريات الرواية، رغم تقاطع الواقع مع الفكرة التي بنى عليها الرواية.
أما في رواية (فقهاء الظلام) العنوان الصارخ لرواية مثيرة، وحيث البدء بالطفرة الذهنية المدهشة، لكنها تضمحل في منتصف الرواية، ويصبح العنوان مناسبا فقط للنصف الأول منه، وكل ما جاء بعده كانت قصص جانبية حتى ولو كانت على علاقة بما بنيت عليها الرواية، والطفرات غير المتوقعة ولا شك، لم تنقذ النصف الثاني من التراجع، ولم تكن على مستوى تكملة البناء الذي يمكن توقعه عند البدء بالرواية، ولا على مستوى خلق الدهشة عند القارئ كالتي عرضها في البدء.
الفكرة الغريبة، وطريقة سردها، وجدت بأنها على سوية قد يتلقفها يوما ما صناع السينما الخيالية في الهوليوود، لكن تناثر الأفكار والقصص الجانبية التي أضعفت الفكرة الأساسية، خلقت فيها التناثر غير المتناسق، وقللت من قوة البناء الأولي. كما وأن النهاية في رواياته، وخاصة في سبايا شنكال وفقهاء الظلام متشابهان في المنهجية، حيث تكرار البداية مع بعض التعديلات الطفيفة، والتي يوقفها على ضحالة، فعلى النسق ذاته كان بإمكانه التوقف قبلها بصفحات أو حوادث، دون أن تتأثر الرواية، وأسلوبه في وضع النهاية تعكس مفهوما على حالتين: إما أن الكاتب يود أن يخلق بعدا مخالفا لكلاسيكية الرواية، فيربط النهاية بالمقدمة ويجعل منها حلقة بدون نهاية. أو أنه دون الإمكانية لوضع نهاية لبدايات رهيبة ذهنيا لرواياته.
لكن قوة السرد وجمالية اللغة والسلاسة في عرض الروايات والقصص، ووضع الكلمة في مكانها بدقة متناهية، وروعة الشرح باختصار جميل ممتع، ولا شكل الطفرة التي تبدأ بها الروايات، غطت على التراجع الذي يحصل في المتن، وأقصد ما بعد منتصفها، المتراجع عن النصف الأول وحيث الصدمة التي ربما لا يتوقعها أي قارئ وما هو قادم عليه عندما يبدأ بقراءة الصفحات الأولى.
لا شك سليم بركات بإمكانه أن يخلق من اللا شيء شيئا رائعا على خلفية القدرة الرهيبة في اللغة، وغرابة الأفكار.
لا شك لجمالية الروايات كثيرا ما أقرأهم بدون توقف لساعات، دون ملل أو أحساس بالتعب، لكن أحيانا تركت قراءة الرواية على خلفية شطحات يقحمها في المتن تهبط مستواها؛ أحيانا أبعدني كقارئ من الانغماس الكلي مع مجريات الأحداث، وبها أضعف جمالية بدايات الرواية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
25/8/2024