إبراهيم محمود
يمارس الشّعر حضوره الفعلي ضد الذاكرة، فالذاكرة صنمية، والشعر ناسف الصنمية، رغم أن الذاكرة هذه مسكنها، لكن بمثابة ” حديقة الحيوان ” التي تزعم أنها تحمي حيوانها من الانقراض، سوى أن جغرافيتها المكانية، ومساحتها المسوَّرة، وكيفية التعامل معها، تعريض تدريجي لها للانقراض، وهو إجراء غبي يترجم مدى أهلية الإنسان للتدجين ونسيان أنه أصلاً كائن بري في بنيته، إلى تدجين ما حوله .
كما لو أنه استثناء إنساني ضد الإنسان، أكثر من تحرّكه على هامش الذاكرة، إذا كانت هذه متناً سلطوياً: أعرافاً وتقاليد وطقوس تذكّر بما كان، وتسدل ستارة سوداء أكثر من وصفها بالحدادية على ما سيكون .
من هنا يأتي حديثي، أو لا يأتي، لأنه حاضر، به حنين إلى كلام يبحث عن اسم يرفع إليه رغبته الخاصة، ولو باختصار، عمّا يجعل الشعر شهادتنا الأوحد في الوجود، وتحريراً لهذا المقيَّد الموجود داخلنا .
عالية في مواجهة ميرزا
لا أؤلّب الشاعر الكردية العراقية ” عالية ميرزا ” على والدها أو نسَبها الذكري، وبعيداً عن الاصطفافية، ودلالة النسب في الاحتواء والهيمنة، وفق العنوان آنف الذكر، إنما أكتب طي كتابتها الشعرية ما تكون عالية دون ربطها بـ” ميرزا ” شهادة ولادة تعيش مخاضها على مدار الوقت ومكانه، على الأقل من لحظة استشعارها عن ” بُعْد داخلي ” بوجود أكثر من شيء يمنحها طاقة وجود لم ولا يمنحها كامل وجودها مع الآخرين ..
عالية ميزرا الشاعرة الكردية العراقية ” مواليد ” كركوك 1957 ” حائزة شهادة بكالوريوس في عالم الاجتماع ” أربيل ” ومقيمة في السويد منذ نهاية عام ” 1985 ” كما لو أن هجرتها السلمونية دون رجعة بذات الروح مهيضة الجناح، رحلة في عالم ” منطق الطير ” وعلى طريقتها، وذلك في كتابها ( عرس فينيكس : نص مفتوح .منشورات هنّ، القاهرة، ط1، 2023 ” في ” 154 ص ، من القطع الوسط ” )، كتابها عذابها، وركابها ، كتاب ارتكاب الجنوح في قلب اللغة المعتادة على نفسها كما لو أنها تريد بها وصلاً من نوع مغاير لحقيقتها، قبل أي حديث عن أسطورة ” الضلع الأعوج ” العصا الآدمية المشرعنة التي تكبح جماح كل شعور بالاختلاف وسيادية الروح الخاصة لدى المرأة، عالية تطرح أشياءها، لكأنها ” تبلبل ” وعي قارئها الطافح ربما هو ذكري معتد بنفسه، لتريه ما يخفى عليه، أو ما لا يريد اطلاعه عليه، وهو أنها جسد كامل، له حضارته الكوكبية، لغته المطموسة، قواعد صرفه النحوية، إنشائياته الخيالية، فولكلورياته الجمالية الممتدة إلى المستقبل، استنهاضاته من داخل البئر التي رميت فيها منذ زمان سحيق بأكثر من تهمة” أين منها بئر يوسف “؟
كتاب في إثر كتاب، كما لو أن التوقف عن قول الشعر، أو الكتابة إعلان رحيل أبدي في صمت مطبق!
ليس من شعر، وهل شعر غير الشعر الذي شريك له في الاحتفاظ بأبدية كريستاليته” كما هو المفصَح عنه فراهيدياً، ولكن ثمة شعراً يتجاوز عمامته الضاربة بهيبتها المعتبَرة . ليس من نثر، كما هو الجاري تأطيره بلغة أهلها من الذكوريين. ثمة ما ينطق بما ليس فيه، لأن فيه ما ينتظر من يفيه حقه في الكلام بامتياز.
إذا كان الشيء في غفل الاسم إحالة إلى براءة الوجود، إلى ما قبل تحميله اسماً في سعادة وجوده، فهو في حكم اللغة مدفوع إلى داخل لا خروج منه، وإذا كان يقال هكذا ” شيء ” فهو تنويع لما يحصى من أسمائه، وتوقعات الأوصاف والهيئات، فهو جرّاء ذلك المنتظر لمن يحيط به علماً ينتسب إليه، ولا يسوّره، لأنه أكبر من اسمه، ومن يعيش حمّى التجاوز يكون الصديق الصدوق له. ولا بد أن المرأة لحظة القيام بأي جردة حسابية تاريخية، سوف يكون لها قصب السبق، كونها تفيض بالأشياء ولكل شيء ما يعززه ثراء.
ربما من هذا المنطق تحمل كتابها الخاص بكامل جسدها، جسدها الذي أودعته إياه، وسفحتْه لغة بمقياس ذائقتها المضناة بشوق المرتقب، وتطرق باب كل محجّر بـ” صُورها ” على اللغة في جامدها ومشتقها.
لا يخفى على الصديق الشاعر والناقد إبراهيم اليوسف أن يشير إلى هذه ” الشطحات ” الأنثوية التي تقيم وصالاً من نوع خاص بين الأرض والسماء، وتهز به يقينيات الذكر الكوكبية واعتدادها الفحولي بالمختلف المزعوم عنه، وهو يرى أنه من الضروري التعامل مع نصها ( باعتباره اختراقاً للأجناس الإبداعية في عالم الكتابة… ص 8 ) وهو يأتي على ذكرها.
بدءاً من العنوان ومتتاليات العنوان ثمة الارتحال المعاكس، فشمس الرجل التي تشرق غير شمسها، وهي إذ تستنجد بكائنها الخرافي العتيد ” فينيكس ” الطائر الذي تعرفه السماء والأرض، وهو يحترق بإرادته ليتجدد قوة وعزيمة ونفاذ أثر. طابعاً طائرها هذا واقعي، يتنفس بين جنبيها، يتخذ هيئتها، صوتها، مكبوت روحها، تاريخ جسدها الدامي، نارها التي تحرقها قهراً بإرادة القيمين من سدنة الذكورة، ليكون نفياً لفينيكس الآخر، المجهول أو المختلق باسم ذكر ما، إنه قيامته على أصله الذي لا يُعتد به. طائرها يتمثل حيوات تترى . وفي العرس ما يفضي بنا إلى زمان ومكان مختلفين، حيث الجسد، جسدها الشعري يعلِمنا بذلك، مع دوام الانتعاش بحياة أصفى وأوفى لاسمها. العرس عرش، أيجوز التصرف بالمعاني بتغييرات سريعة؟ إنها بدعة الاستعارة!
ربما كانت الصورة المرئية طي غلافها بلونها الأسود الشفاف تقريباً، إشعاراً بهذا الجموح، بهذا التحدي حيث الصدر يتصدر جسدها، وما في ذلك من امتلاء بهواء الحرية، والشع يحلق بها عالياً، في هيئة جناح، واليدان لا تخفيان نشوة الامتلاء بالفراغ والحرية، وهكذا الحال مع القدمين العاريتين في قفزة ” أوبرالية ” ضمان أمان موعود به جسدها لآت، أو لما يعجز الرجل الذكر” الشهرياري ” عن استيعابه. خطابها !
ربما لهذا التوصيف كان ويكون أول عنوان فرعي، وهو العنوان الحامل لكل عناوين الكتاب في الداخل، ويكون الخطاب إلى اللامحدد، إلى المعني بشيء محوَّر لديه، وهي بأشيائها مغايرة( أحضنّي وأحكم قبضة ذراعيك حول كتفي، احم ظهري فالخوف يعصف بي من هناك، ابن ٍ قلاعاً من الأمان خلفي، أعد لي ثقتي بتلك الزاوية الميتة التي تخون مساحات البصر وتحجب رؤيتها.. احمني من صحراء هذا السرير القاحل المحتل بآلاف من جحور الثعابين والعقارب التي تخرج ليلاً…ص13 ) .
ربما يكون هناك من ينسكن بالذكورة ويقول معلقاً وبسخرية: الذكر الذي ترفضه تلوذ به. كيف ؟ لكنه الذكر الآخر موهوب الطبيعة، وليس الثقافة، ذكر الحياة الذي لا يحلق لحيته أو يربّي شاربيه كما يشتهي ويتباهى بهما، إنما ذكر الحياة المتفاعل مع المرأة. إنه الآخر الذي يقدّر سره في اسمه، وهو يحمل بنصف سرها على الأقل، دون ذلك يفقد خطاب القول فاعليته، مرامه ومقامه.
ولتكون أخلص لأشيائها، لتشدد على ولاداتها الدائمة وليست البيولوجية وحدها، تنوع في الكتابة، جهراً، وتعدياً لحدود الكتابة المتداولة، حين تحاول التأريخ لمفهوم الاغتصاب، ما يتجاوز به الجانب الجنسي( هو كل فعل يمارَس ضد جسد الآخر وبأية وسيلة اختراق كانت مادية أو معنوية.. ص 14 ) .
اللغة نفسها بهذا المعيار اغتصاب لأن هناك اصطلاحاً متفقٌ عليه، وهو مفروض بمحتواه، ولا تمثل الجميع، لأن كل تهجئة غير دقيقة لحرف أو فعل أو اسم فيها، لا تعد خطأ، إنما ما يجعلها إقلالاً من قيمتها، وهي تشدد على مرتكزاتها عبر مفهوم” صحتها “، حال ” سيبويه ” اللاعربي وهو يستجيب لرغبة العربي على طريقة الفراهيدي، في تقعيد اللغة، كما مارس الأول ضبط الشعر.
عالية هذه ، عالية الجرح والنزف والترجمة الدامية بامتداد عمرها، لا تنسى أمها نزيلتها في زنزانة الذكَر العابرة للتاريخ، وسلفها في المعاناة ، عبر تسمية أخرى لفينيكس، أي ” العنقاء ” في رحلة العنقاء ” وسردها الذي يقرّبها من الواقع، سوى أنه يعرّيه في المخترَق فيه( أمي ها أنت تقفين ثانية بوجه الظلم، هذه المرة تمسكين يدي الصغيرة وتحمينني من مزايدات أسواق النخاسة المقنعة )
إنها مشهديات الكولونياليات الذكورية الموزعة بطرق شتى في العالم أجمع، وفي منطقتنا أكثر، تقديمها من قبل أمهها بـ ” يدها الصغير ” مكاشفة لبراءتها، ولتجاهل غضاضتها، حيث تنتظرها أسواق النخاسة المقنعة والعصرية بصيغ شتى .
حيث يُنظَر إلى المرأة كما هي وإنما كما هو موصوف بمقاييس خاصة من قبل ” سيدها ” و” ولي أمرها ” ومقرر مصيرها !
لا تخفي عالية نشوة مشروعة ومنفتحة على اللاصائر والمسمى في آن، على ما يغاير مشتهى الذكر وتعاليه، وهي تسأل أمها عن تاريخ ولادتها، فيكون يوم ” نوروز ” ونوروز هذا رغم أنه ذو رمزية كردية خاصة، وتذكير بـ” كاوا الحداد ” ولكنه كاوا الذي لم يدشن اسمه ولي أمر أحد، ” رب عائلة مثلاً، إنما ما يكون مستهل حياة منتظرة، وفي تعليق عالية ما يفيد( نعم ولدت ٍ في آذار، الشهر الذي تصاب فيه الأرض بثورة العشق وشبق التناسل.. ص 39 ) .
طائر فينيكس عالية يتنقل بها، معها، خلالها إلى أزمنة وأمكنة تتفاعل معها، في عجينة خيالها، وخيالها يهبها خميرة الانبثاق مختلفة، حيث وهج المعنى يدلو بدلوه في فضاء المنشور روحياً، وكما في وحام ” آفستا ” باسمها، بالتداخل معها، النص المستحدث هنا:
يا أبتها القيثارة السومرية التي حملت أوتارها أصالة الزمن.
يا امتداد روح آلهة الحب والعطاء
يا طفلة ولدت أمّاً واستعجلت الوقت في رحمي لتحمل معها الدف، ونور السموات إلى قلبي الذي كان ينتظر شمس العطاء.. ص 68 .
هذه الاستمرارية المتنامية إشعار بخصية ديمومة الروح، وقد نسِبت إلى جوهرها الروحي. حيث تكون النار، وللنار بدعتها، طلسمها وانبثاق نورها الداخلي، كما هو الاعتبار المركزي للنار بمرجعيتها الكردية، كما لو أن الكردية في نص عالية أقول عالية، باسمها تعبيراً عن نسَب في ثول الشعر، تترجم حياتها مذ وجِدت في كائن كردي، جماعة كردية، عشيرة كردية، شعب في انتظار كيانه الجغرافي، أمة على وعد بهويتها التاريخية السياسية، مجتمع يبقى الجسد فيه بقوتيه المتفاعلتين: الرجل والمرأة، هكذا تمضي إلى الماضي، أو يأتيها الماضي بتعويذة الشعر، وقد أودعت الشعر أريحيتها الروحية، وأفستا ملحمة الروح الكردية المعتبَرة والمنتظرة لحظتها الفينيكسية .
عاشت عالية عمراً، ولعلها تصارع العمر المتبقي بناء على قانون الطبيعة: الحياة، سوى أن فينيكسها الشعر، وهي متوحدة معه، يعدها بما يجعل عمرها المنصرم في وقدته، أكثر منة كونه عمر كائن بين ولادة ووفاة زمنيتي. الشعر هو الوعد الدائم بأن هناك ما يستحق الانتظار. ليس انتظار غودو هو المزكَّى، إنما انتظار الوعد الشعر هو الخصوبة المستمرة في الروح على قدر معاناتها، وأهليتها لأن تحيل الكوكبي إليها، لأن تكون البشرية جمعاء، الحياة جمعاً ومفرداً، سراً وعلانية، في صوفية عابرة لعموم الجسد :
في حياتي القادمة سأختار كوكباً آخر، كوكباً لا جاذبية لأرضه، كي لا أضطر لحماية رأسي من سقوط التفاح عليه، كوكباً لا يحتاج قاطنوه إلى لغة، كوكباً يكون الرقص فيه أداة تعبير بين سانيها، أحمل مثل الغجر يومي على كفي لأجوب البراري، أعطر جسمي بعطر الخزامى كي يتعلق بذاكرة خلايا الشم لدى حبيبي الفوضوي…ص86 .
إنها هلوسة حقاً، لكنها الهلوسة التي تبث في الجسد القوة التي تتطلب وقتاً أو بعضاً منه، ليستعيد ما منشود من قبله. وعالية لا تريد المستقبل، إلا لأن ما كان لا يستحق التسمية بما أنها مثقلة بطلبات شهريار الطاغية، ومكابدات شهرزاد الأسيرة الجنسية لدى نموذج الذكورة في ليليها ونهاريها، فالهلوسة هزة عصبية احتجاجاً على خلل بنيوي جار وفاعل في مضمار الجسد ونوعه.
عالية تتوق إلبرّية ، رغبة في الانعتاق من جبروت البرّية، وضغائنها المخضرمة التي تسمي الذكر مكرّر تعويذته: الذكر هو الأصل.
الحياة القادمة، يتعدها أسلوب مختلف كل الاختلاف في الكتاب، انقلاب الشاطئ على بحره، لأنه لم يعد نفاياته المرمية والمتشكلة فيه.
وللتفاح لوغوه الميثولوجي، الديني، التوراتي المعمم على ما هو مسيحي ” المسيح رأس الكنيسة ، والرجل منطقياً هنا ” رأس المرأة “، وعلى ما هو إسلامي في صيت ” الضلع الأعوج ” وأدبياته الكبرى، التفاح مقدّم شهادة على براءته مما يُلحَق به من وزْر، إنه شهي، طعام مغذ، خفيف على المعدة، لكن توليفه جعله مسموماً، وحواء موجدته، كأن اكتشافها كان بمثابة الشعر الذي يطاق. يكون الغجري نفسه منسلخاً عما يصله بالمكان الحدودي، كأن الإقامة إيعاز بمباشرة التنكيل في الجسد المثقل بالشبهات، جسد المرأة . لهذا تمارس سرديتها اللامتناهية في قائمة أشيائها التي تتجدد بأسمائها اللامتناهية، طلباً للمزيد والاستزادة، إكسيرها المتخيل!.
تسعى عالية ما وسعها الجهد إلى تكلّم الكتابة في عنصريها: الشعر والنثر، لغتها، صوتها، بوحها، مشتهاها في الكينونة، ثمة استعادة لخاصية اللغة الميثولوجية، حيث نعيش كائن ” ثنائي الفلقة ” كما هو الكائن الموضوع المحوري لأفلاطون في روعته ” المأدبة، أي ذكر وامرأة متحدان مع بعضهما، ينعدم الحنين هنا، فهما معاً، ويبقى الحنين ممن يريد التعرف على عالمهما من الداخل، وما في ذلك من إشهار بالخلود، والأبدية فكا ن فصلهما عن بعضهما، هوذا الشعر يقوم على كائن مركَّب، من أراد قول الشعر فليكن ذلك الكائن. يا لها من مهمة عسيرة وخطيرة، ذلك من استحقاق الشعر. لولا هذا الحضور الجنسي المركَّب في بدعتي هوميروس: الإلياذة والأوذيسة، لما كان لهوميروس هذا الامتياز في الأبدية، ربما كان ثنائي الجنس؟ إن عظمة الملحمتين تتمثلان في خصوبة الجمال الأنثوي.
هوذا الشعر الذي يتنكر لاسمه، لأنه يطالب بالمزيد، الطفل الشعر، بكامل براءته، ولفت النظر والسمع إليه، لكنه الطفل الرضيع الذي يحتفظ بأوزار الكبار وفظائع أعمالهم، ومن يعيش بدعة الشعر يعيش هذا الحضور الديمومي لطفل عجائبي كهذا.
كما لو أن عالية تسمي أشياءها، وتستزيد شعوراً منها أن الإصابة بعدوى الشعر ميزة لا تُمنح لأي كان، وهي في وضعها الصعب، وسؤالها المستمر عما يكون الأصل، أو ما يطيح بهذه الثنائية الفاتكة: الذكورة والأنوثة، والتراتبية الفاسدة المفسدة فيهما .
اللوذ بالعلْم
لا تدخر عالية جهداً في اقتفاء كل أثر، نأمة، هسيس، أو رسيس، أو نبض عشبة حالمة، ليكون للشعر ما يستحقه، ما نهِب منه.
حالها مع العلم، وما في العلم نفسه من تاريخ قدّم كثيراً باسم الملتحي أو الذكر المتباهي والفخور بكونه من ” صلب آدم “:
العلم أثبت أن الإنسان يتكون من عملية الإخصاب، الذي يقوم على حيويين الرجل وبويضة المرأة، عن طريق الممارسة الجنسية، أو مؤخراً الزرع المسمى أطفال الأنابيب، أما غير ذلك من عمليات النفخ في الفم لتكوين الجنين لا يتقبلها عقلي الصغير. ص97.
خبر مسرود، أو تقرير، سوى أنه في سياق الكتابة وعالمه المتعدي للشعري والنثري تمايزاً، يطيح بأحادية العالم، لا يعود الشيء هو نفسه، هو ما ليس هو، والخبر إقرار بحقيقة مؤجلة أو مؤجَّرة في حساب القيّم على المرأة، حتى في نزع العلمي على العلم.
ولعل صلاتها بالعالم الخارجي، وبالأنشطة الحياتية، وبالميول، وبالمطالعة أكسبتها معرفة متشعبة بحقيقتها النفسية، الرياضات وغيرها لم تقربها من نفسها، وحدها المطالعة، التي تسمح لروحها أن تعانق مجهولها: أدخلتني المطالعة إلى عوالم الخيال أستنبط منه أجوائي الخاصة، وأُسكنها بمن تخلقهم خيالاتي تلك بعيداً عن الواقع الذي كان حتى قصص حب المراهقة عندي كانت خيالية أكثر من كونها قصصاً واقعية استوحيتها من الكتب والأفلام..ص101.
تبحث عن ممرات آمنة لروحها، لأفق هو شرفتها على عالم الرغبات المشروعة والمحظورة، عالم احتضانها لروحها، وليس مكابدتها لخاصية الفطام القسرية والموجعة، ثمة القيثارة التي تعبرها بصوتها عالياً، بعنوان ” قيثارتي ” وما للتنسيب الذاتي من مكاشفة :
أشعر بقلق روحك وهو يحوم حولي، يبسط هالته ليضمني تحت جناحيه عند لحظات الأحزان والانكسارات ، التي تفرد ظلها الندي لتنعش القلب في تلك اللحظات التي يقف فيها الهواء من حولي حانقاً راكداً. ص 115 .
الشعر خاصية قيثارية، لأنها تجمع بين الصوت النابع من الروح، والقيثارة القادرة على الدفع بأوتارها إلى أن تطرب للصوت، وقد وجدت طريقها عبر الأصابع والشعور بحميمية الحالة، لا تعود القيثارة إلا مترجمة موسيقية إلى الآخرين .
كانت الكلمة في أصلها صوتاً. هوذا بيت القصيد، هوذا اللاتجنيس الذي يجيز للكون في مجموعه أن يطرب في ذاته. إنها حيادية الشيء الذي يتدفق بمعانيه بعيداً عن الأسماء التي تُسقَط عليها، إنها استمرارية إعادة البحث عن مفقود لا يعرَف متى وأين وكيف،ـ لكنه يرن بصوته، بكينونته اللامرئية أنّى التفت المأخوذ بعشقه المائز، وعاليا تترجم حيرتها، سيرتها نفسها إلى اللامجنس انتقاماً من مجنسه المزعوم والمفروض على الطبيعة، وما جرى تطويبه.
في ما يشبه المناجاة من مكان عميق إلى أعالي جهات جغرافية، تنشىء جغرافيتها البشرية، في ” عبق مدن معشعشة في خلايا الذاكرة ” إنها تحملها في ذاكرتها، وهي متاخمة لروحها، وربما كانت روحها لوحها المحفوظ طي ذاكرتها :
للمدن حكايات، منها ما تبني بيوت العناكب في الذاكرة، وتعكس خيوطها الضوء المسلط عليها لتكسرها مثل الموشور في الذاكرة كلما مرت على مخيلتها..
هناك أيضاً مدن تبقى مجرد محطات نمر عليها في رحلة الاغتراب والغضب من الوطن..
نعم، هكذا هي المدن، ذكراها تتمازج مع رائحة توابلها، عطر نسائها، رائحة الخبز في أفرانها صباحاً، أو رائحة ملح البحر الذي يقتحم أنفك، وينعش مجاري التنفس فيها..
سأبدأ رحلتي ذكرياتي معك أنت يا بغداد، يا نخلة في البال، يا عبث البنفسج ورائحة الهيل الهاربة من قعر الهاون..
يا فوضى المدن وصخبها، يا كل فصول مراهقتي، وشغفي المتمرد
كتبت عن باريس لأن السفر إليها دخل ضمن الخطة العلاجية التي أوصتني بها المعالجة النفسية التي أشرفت على علاجي بعد الحادث..
وعن لندن: أروقة تعكس لون الغسق بهدوء يدخل الروح حالة من الثمالة العذبة..
شكراً لك يا عاصمة الضباب وشبكات مترو الأنفاق، لأنني في وسط فوضاك اهتديت إلى واحة سكنتها روحي في تلك اللحظات التي سرقتها ، والتي منحتني سحر الانفلات من ضبابك وفوضاك..ص153 .
إنها مدنها المختارة، وليست مدنها القابعة والمدثرة بخرائطها، وألوان حياتها اليومية، فلها مسالك مختلفة في الحياة، فيها من الشعر ما ليس متوافراً في الشعر لعدم صحة تسميته شعراً، لأن ذواقيه مختلفون، وفيه من الكتابة الأدبية عينها، ما يجفل اللسان من تهجئة- ولو- كلمة منها، ليس لفلتان المعنى فيها، وإنما لأن لها طرائقها في التعبير ولاحدوديتها في النظر آفاقاً وأعماقاً.
وبين مسافة” يتقرح ” طرفاها من الاحتكاك والتباغض في أمكنة عاشتها في مناطق تتكلم لغتها وأبعد، ومسافة تتفتح على المحال لمن يوهَب وهجه وقدرته للاقتراب منه، والعيش على منواله، طليقاً حريقاً يشتعل ويضيء ماسة روحه أكثر.
دون ذلك ربما يستحيل الإقامة في حاضرة ” عرس فينيكس ” ليس للفرجة، وإنما للنظر ولو عن بعد. فقارىء عرس فينيكس عاليا ميرزا، لا يجاز له رفع الكتاب دون قراءته، وقراءته دون الشعور برقص الأصابع في غمرة وهج تردد صدى أوتار قيثارتها..
أتراني بالغتُ قراءتي هذه؟ لا أطلب تعليقاً من أحد، إنني نفسي أسائل نفسي، جهة التواصل مع امرأة امرأة لم ألتق بها أبداً ولو عن بعد، سوى أن كتابتها، ولأنني مأهول بهذا الحنين الميثولوجي المعتق وحده إلى المنزوع عنها والمعتَّم عليها حال المرأة، ومدمن الكتابة عن بنات جنسها، بأفضل معنى للعبارة، أعطي لنفسي مثل هذا التفويض المفتوح لأن تقرأها وهي مطمئنة، دون إعلان أي حداد لذكَرها التالف روحاً أصلاً.