ربا مروان الهدير المكتوم تقشر الوقت من عقاربه

غريب ملا زلال
-لا ينبغي أن يفوتنا ما تحتفي به ربا مروان هذه الأيام ، إذ تحتفي بفرحها و ألوانها و معرضها الفردي الرابع الذي يقام حالياً ( 10-17 / 7-2023 ) في غاليري زوايا بدمشق و يضم ثمانية و أربعين عملاً إشتغلت على إنجازها في مشوار بحثي يمتد لسنتين و نصف ، و حمل عنوان ( سكون ) و الذي جاء من صخرة الشاطىء التي تتحمل مختلف الظروف الطبيعية بصمت و تبقى جميلة و معبرة حسب قولها ، أقول لا ينبغي أن يفوتنا هذا الإنجاز العذب الذي حققته روبا مروان دون أن نقف عنده و نلامس تلك الخطوات التي خطتها في توجهها نحو تحقيق اليسير من مطامحها المستمدة من حلمها الكبير ، فهي العاشقة أبداً وبحق ، عاشقة الحياة و الفن ، تحت طائلة التشابك الصلب مع ما تحب ، و من تحب ، فهي تلتقط الفكرة في مفهومها الجمالي و تتبع أحاسيسها إعتقاداً عذباً منها بأنها تختزل خاصيتها الأداتية المميزة بوسائل هي بحد ذاتها أدواتها في تفعيل ذلك السكون بوصفه درجة عليا من فنون الكلام و التعبير ، من الأشياء أو الموضوعات المتاحة و التي لا يمكن التلاعب بها إن كانت على شرعية القصد أو الغاية التي ترمي إليها مروان ، أو ترداد أصداء تلك السمات التي تميزها ، فهي تقدم مثالاً واضحاً ، جميلاً يمكن لها أن تمضي به نحو تخوم الإنتباه الذي ينطوي عليه نوعاً من الفعل الذاتي الذي يمكنها من تحقيق ما يجول في خلدها من تفاعلات تكمن خلفها علاقات إنسانية فعلية و واقعية ، و هذا ما سوف تحتاجها بوصفها واحدة من الفاعليات التكوينية المهمة و التي توفر للفرد قدراً من التكيف الذي لا بد منه ، مع الكثير من الاعتماد على التوجه نحو آفاق تحاكي نموذجاً من السلوك الذي تسير عليه ، فثمة أمر مهم بالنسبة لها تدل على خروجها من ربقة التقليد ، فهي لا تفرض على ذاتها تلك الشروط المشوهة التي يعيش في ظلها الكثير من فناني اليوم ، فهي تدرك تماماً صوابية التمرد الممكن و مصدره ، و بأن الفردانية التي باتت مهددة من جهات كثيرة بأنها المخلوق المطواع و المذعن الذي سيحررها تماماً حتى من تلك البراثن التي لا ترى بالعين المجردة بل بالإحساس ، الفردانية التي تعيد بناء الفنان بوصفه سيداً لا عبيداً ، بها يتعرف على مؤهلاته التي لا يستطيع معرفتها و استهلاكها إلا هو ، و التي ستحرره من تراتبيات التقليد و تحدد له هويته .
إذا ما كانت أعمال ربا مروان السابقة في مجال الجماليات الخاصة قد لقيت ذلك الاهتمام المتزايد ، فإن أعمالها الثمانية و الأربعين التي تعرضها بسكون و في سكون بزوايا فهي تستحق اهتماماً أكثر ، فهي تتسم بقدر كبير من الخصوصية قياساً بأعمالها السابقة ، فهي هنا تشتغل على نفسها ، على ذاتها ، بكامل أحاسيسها ، بكامل عواطفها و مشاعرها ، فتلك الوجوه التي هي وجوهها بكل تأكيد في حالات و مواقف متباينة تكاد تسرد لنا زمنها و قصتها و وجعها و فرحها ، فهي هنا أشد انفتاحاً و تحرراً ، أشد جرأة و اقتحاماً لعوالم كانت مغلقة ذلك الانغلاق الحاسم إلى زمن قريب ، و حقيقة الأمر أن انفتاحها الظاهر هو فصل من فصول كتابها ، فهي تركز على المشاعر الإنسانية بمستواها العميق ، و على نحو أخص حين تنطق الأشياء و تدعها تتكلم بسكون ، بلغتها الخاصة ، محافظة على المسافات في هندستها التي ستجعل الابتعاد صعباً حين يفرض عليها ، ما عليها إلا أن تحسب خطواتها بدقة حتى يصبح الاقتراب سهلاً و هذا ما تحتاجه ، فالقمر لن يدور إلا في فلكها ، فهي مهندسة المسافات و تتقن فنها كثيراً .
ربا مروان طافحة بالحياة ، و علاقتها معها هي علاقة تحدًّ ، و هي العلاقة ذاتها مع ريشها و ألوانها و فضاءاتها ، فهي تسير في المسار غير الطبيعي الذي ستؤول إليه أشياءها جميعاً كاشفة عن قدرتها الإستثنائية على التجدد و اختراق الحياة بنفس جديد ، فهي تقشر الوقت من كل عقاربه ، و تمسك بثوانيه كي ترتقي بفهمها للعالم ، فهي لا تكتفي بالسعي المتواصل لإيجاد عناصر جديدة تغني أفكارها ، و تبين أهمية تلك الأفكار دون تبسيطها و إيضاحها ، فهي تحيي لدى متلقيها الروح المتسمة بالحب و الصدق و الغور ، فهذا المتلقي يعيد إحياء نصها حتى يبدو مغايراً لكل ما هو مألوف ، إن كان عن علائم السياق الذي أنشأها لنفسه أم بما يميز ذلك النص من قدرته على تخطي ذلك السياق بكل علائمه ، فمروان لها وجهة نظرها المعاصرة في ضروب التشخيص التي تقدمه في مبناها الذي نحاول أن نلقي بعض الضوء عليه ، المبنى الذي يكسر التسلسل الزمني في فصولها العشرة ، إن كانت بإطلالاتها على تحولات أساسية ستقرأ لاحقاً كضرب من إعادة إستكشافاتها بمزيد من التفصيل الساكن ، أو بإستبعاد بعض الأشياء من المشهد ، من بعض جوانبه ذات قيمة رفيعة و باقية لا كنهاية فصل ما من كتابها بل لخلق المزيد من القراءة و هنا ستكمن الرغبة العالية في التوسع في فهمها ، فضلاً عن أن حقلها الفني بات أوسع ، و أن الانسان فيها بات أكثر من بعد ، ففي الوقت التي تستغرق مروان في ذاتها تدفع الآخرون في هذا الإستغراق ، بل و في ذواتهم أيضاً ، و هو الأمر الذي يرفع من قيمة عملها ، و تتقبل ما يطلقه الآخرون من أحكام عليها ، فهي على ثقة مطلقة بأنها في المكان المناسب ، و تلتقط الأشياء المهمة عن الحياة المعاصرة و التي تبقى حية في ذاكرتها ، تلك الذاكرة التي أفرغتها بألوانها الذهبية الخاصة والتي تميل فيها على نحو متزايد إلى الأهمية التي تسبغها على العلاقات بين وقائعها الكثيرة ، تلك الوقائع التي تتكلم من تلقاء ذاتها و تنتج دلالاتها التفسيرية التي تختلف تماماً عن الدلالات المتعارفة عليها، أقول تبقى حية في ذاكرتها التي أفرغتها بذهبها على فضاءات باتت تشكل طريقتها التي عليها تترتب سبرها و ربطها بمجموعة من الأفكار المتعالقة و التي تتيح أن تتمازج مع اختزال سيرورتها حتى تقترب في فك شيفراتها المعقدة منها و البسيطة ، حتى تبرز أشكالها الحديثة فينظر إلى وقائعها على أنها الأوعية الخالصة التي سنجد فيها ما يعكس كينونتها الخاصة .
ترجع ربا مروان إلى نفسها كثيراً ، و في كل مرة تجد ما تتقبله بلطف و بلون مغاير ، و بما يشغل بصيرتها
من حب و عشق لا يجحفان بحقها ، فهي التي تمتطي جوادها و تنطلق في ذاتها ، تغازل الطليق فيها ، و توقظ الغافل منها ، و تدرك بأن اللون الذهبي الذي يتلبسها كيف يلد ، تقف أمام هذه الذات لتنحت فيها أولاً ، و توقظ فيها الروح ثانياً ، و ترى بعين الحقيقة كيف غلب عليها الهوى ، و كيف تأبى العيون الإستيقاظ ، فما تخبئه فيها من أحلام ما هي إلا حقول جميلة زرعتها بأحاسيسها ، و سقتها من مشاعرها ، و رعتها بأصابعها ، فكل المهجة التي تطوق تلك الحقول و بالتالي تطوقها ما هي إلا ثمرة الإنتظار و تعبه ، الإنتظار الذي يهد ، و التعب الذي يحفر أخاديده في ما يأتي إلى الوجود لاحقاً ، فإذا ما كانت ربا مروان ترى الأشياء بوقائعها غير المرئية فإنها هنا غير مطواعة إلا لحلمها ، و لا تنقاد إلا لما يناصر ذلك الحلم ، الحلم المحفور بين ضربات ريشها القاسية و كأنها تنحت صخرة فيها ينام ذلك الحلم بكل تأملاته بوصفه الحياة التي تبحث عنها و يستحق هذا البحث و هذا النحت الذي لا يحتاج إلا نفخة من روحها حتى يقول ها أنذا .
ربا مروان تُنهض بهاءها و سلطانها بسكون و بهدوء ، رغم أن مفرداتها مليء بالإندفاعات التي تولد كقصيدة في السر ، الطافحة بالهدير المكتوم ، تعلن عن نصها بألوانها الذهبية و لهيبها ، تنتشل من موجوداتها و مدركاتها جميع أبعادها و لا تكف في حضرة ذلك إلا أن تكون طافحة بالحب و الحياة ، فالحدث عندها غير ثابت ، منفتح على فعل الاتفاق ، و الدروب التي تشقها غير مغلقة ، ترتادها و تلوذ بها كلما حرصت على الاحتماء بما يخدم نصها في لحظة حلولها في فضاء ذاتها ، فهي غير عاجزة على النهوض من ذاتها ، بل تبدع في ذلك و تجاهد كي تكون حاضرة مبنى و معنى ، تقتفي أثر الذرى و ترتقيها دون العودة إلى سديم البدايات ، فهي هذه المرة أمام مرآة ذاتها و مشاعرها ، تمسك بلحظات محددة في سلم الزمن المفتوح على رحاب الروح و نبضاته ، تمسك بصميمها و جوهرها ، و تتعاضد مع صورها و رموزها التي تتشكل وفق نسق متلبس بالكلام تحيط بها كسبل تلتهم ماء الطوفان ، تنحدر بحلمها نحو الخلود ، فالرغبة مغروسة في اللاشعور و كذلك الحلم ، تحيله إلى مقامات صامتة برموز غير نمطية و بدلالات مرتبطة بالأحاسيس التي تشرع بالحضور من لحظة الولادة إلى لحظة النضوج و القطف المثمر ، فبتعبيرية موجعة تستل الوجود و تضعه في مواجهة العدم كي تكون و كي تبقى سرودها محلقة في براري الروح .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

نارين عمر

من خلال التّنزه في وعلى شواطئ الكتاب المعنون “شواطئ النّص، الاقتباس التّمهيدي في الرّواية العربية” للكاتب الدّكتور ولات محمد الصّادر عن منشورات دار لوتس للنّشر الحر، الإصدار رقم 757 يناير 2024 سوف نجد أنّه بذل جهداً كبيراً في كتابته وإعداده، وخصّص له سنوات طويلة ليكون الكتاب الأوّل في النّقد العربي الذي يخصّ عتبة…

فراس حج محمد| فلسطين

المقدمة:

لا شكّ في أن المفاهيم عامّة يتناسل بعضها من أعطاف بعض، فتنشأ بينها علاقة معينة، ولتشترك فيما بينها في جزء من المعنى قبل أن يأخذ المفهوم الجديد شرعيته بالاستقلال عن غيره في الحدود الدلالية والتطبيقات اللغوية، فالاستعارة مثلا تناسلت من مفهوم التشبيه، وظلت تعرف على أنها تشبيه حذف أحد طرفيه، وظلت هذه…

عبد الستار نورعلي

الليلُ ستارٌ نُسدلُهُ

فوق نهارٍ منْ أرَقٍ.

 

أطرقُ نافذةَ نهاري،

البابُ المُغلَقُ منْ غيرِ مفاتيحٍ،

البوّابُ النادلُ يغيبُ،

يظهرُ في ليلٍ داجٍ

منْ غيرِ ثيابْ.

عارٍ عنْ أرديةِ كلامٍ.

 

بابُ الكهفِ سرابٌ،

ثالثُنا القلمُ،

قلمُ الكلماتِ على ورقٍ

لا قلمُ شفاهٍ لا تنبِسْ.

 

ذاكَ البوّابُ يُغازلُني

أنْ أفتحَ كلماتي

لريحٍ صفراءْ،

قلْتُ:

أنا ريحي حمراءُ بلونِ الرايةِ

لا لونِ وجوهِ الأسيادْ.

 

في زمنٍ مرَّ

لم أفتحْ بابي يوماً

لريحِ كنوزِ الأٌقوامْ.

كيفَ أكونُ اليومَ

على…

عبد الجابر حبيب

 

سهلٌ ممتد،

في ضوءِ الفجرِ تتلألأُ

بقعُ الندى

 

********

طريقٌ موحل،

تغوصُ في الحقولِ

خطى عابرة

 

********

صوتُ الرعد،

فوق الشرفة الشرقية

حباتُ البردِ

 

********

هواءُ الخريف،

أوراقٌ متيبسة تتدلى،

بـحركةٍ بندوليةٍ

 

*******

صخورُ الجبل،

من بينِ الشقوقِ الضيقةِ

تنبثقُ الأغصانُ

 

********

بحيرةٌ راكدة،

تهتزُّ على سطحها

خيامُ الزائرين

 

********

موجٌ متكسر،

تتلاشى على الرمال

رغوةٌ بيضاءُ

 

*******

ليلة ماطرة،

وميضُ برقٍ خاطف

على السطوحِ

 

********

ضبابٌ كثيف،

من النوافذ البعيدة

خيوطٌ صفراء

 

********

ظلُّ الغصن،

على الجدار الأبيض

حركاتٌ غامضة

 

*******