عمران يونس وتوقٌ لخلق لوحة حديثة

غريب ملا زلال

عمران يونس، حكاية تشكيلية لا تنتهي، نسمعها بصريًا دون أن يراوغنا بمنطق اعتيادي. حكاية نتابعها بشغف “شهريار” لـ”شهرزاد”، وهي تسرد حكايتها كل ليلة. ولكن هنا، مع يونس، نحن أمام مدىً للعمق الإنساني الموجع حتى نقيّ الروح. لذلك، نجد مفردات الموت، الوحش، القتل، اللاإنسان، الخراب، القساوة، الجماجم، والقبور تفرض ذاتها في مشاهده، دون أن يقترب من التقليد أو يعيد تجربة أحد.

يمسك يونس، كمخرج مسرحي، بخيوط شخصياته، ويغلفها بطاقات يدعها تتحرر، مستندة إلى مفاهيمه التي تعبّر عن عالمه الخاص، لا كحقيقة فلسفية، بل كتقاطع عنيد مع وحشية الإنسان. ليست أعماله استعراضًا لمسائل كارثية في إطار تاريخي، بل هي قوة افتراضية لقراءة المهارات، والمقاربة للتشوهات الإنسانية، واستشراف المعطيات التي تظهر في ملامح الوجوه، ونمط الجسد المنتشي بالوجع، والتكبيل، والتجريد.

خصوصية عمران يونس تكمن في كونه حكاية تشكيلية سورية تختزل ذاكرة مليئة بالأشياء والحالات وتأويلاتها. عوالمه محشوة بسواد غير مألوف، كسردية بصرية تدفع نحو التمركز في وضع غير مريح، مع استبعاد الكبت خارج اللوحة. فالكشف والتمثيل يتطلبان ثغرة، منها يلج عمران ليقترح علينا الحقيقة الحاضرة الغائبة.

بأبجدية مضطهدة، يعزف عمران شواهده دون أن يلتفت للخواتيم، فالقمع مستبد، والتهمة لا تسقط بمحاورات مثيرة. الأقنعة لا تؤطر وجوهًا معينة، بل تعري الذاكرة، وتكشف التمثيلات البصرية. يونس ينتمي لوجع التناقضات والمغالطات، ينبض بها، يلتقط الحياة والموت، الوحشية والكابوس، الحب والحرب، القتل واللا أمان، التعذيب والدم، الجماجم والمقابر، الحلم والواقع… كلها تشكّل كلمته ومشهده ونافذته.

يعنى عمران عناية فائقة لا باكتشافاته أو تفسيرها، بل بسلسلة إيماءات تشكّل مفاتيحه لقلب التراتبية، ورمي النقاب، وكشف المستور. إنه يعتني بالألم، وسببه، موحدًا الحالة نحو كلي وجزئي في آنٍ واحد.

“من أنت أيها الموت؟” عبارة قالها عمران يونس وأرفقها بأعماله المتوجهة من دمشق إلى باريس عام 2014، لتمثل كلمته الغائبة حين لم يُسمح له بالمغادرة. لكن، ما لم تصله العبارة، أوصلته أعماله النازفة وجعًا ودمًا، خارجة عن حدود الدول، ومنسجمة مع حاجيات التجربة وتحولاتها. أودع فيها فكره وتذمره، دون إقصاء للآخر، حيث الذات والآخر يكشفان عمق تجربته كإنسان وفنان. أفكاره لا تنجلي بل تظل رهينة تصنيفه الخاص، وسبل معرفية لا تفقد هويته.

عمران يونس فنان متمرد، يعي هذا التمرد ووظيفته الدلالية. لم يُقلد تجربة ما، رغم وجود نسائم من آخرين، كنسيم عبدلكي، لكنه لا يجترّ أسلوب أحد. يونس يبدأ من حيث انتهى الآخرون، ليصوغ فرضياته الخاصة، ويخوض مغامرة عاشق لا يعرف السقوط في التكرار. إنه يستدعي تلك الأصالة الداخلية المفقودة منذ سنوات بعيدة، الأصالة التي تركت حزنًا عميقًا في امتداد عالمه وأعماله، وفتحت نافذة تطلع إلى إنسانية جديدة.

يتوق عمران يونس لخلق لوحة سورية حديثة، مهما كانت اللحظة والظروف. يرمي جانبًا كل التحولات والوقائع، ويقبض على بنية جديدة. يملك شيفرتي اللهب واللعب، فيتعامل مع معطياته الحاضرة ليفرض مفهوماً يتجاوز الظاهرة، دون أن يكبح جماحه في انبثاق تقاليده الخاصة، ذات منحى جديد ومغاير.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…