خالد جميل محمد
في وظيفة اللغة والكلام
لا تخلو أيُّ لغةٍ إنسانيةٍ من خاصّيةِ المرونةِ التي تجعلها قابلةً للاستخدام ضمن جماعةٍ لغوية كبيرة أو صغيرة، وهي خاصيّة تعكِس طواعيةَ اللغةِ، وقدرتَها على التفاعل مع المستجدات، بصورة تؤهّلها لأن تُستخدم في عملية إنتاج الكلام بيسر وسهولة، متوسِّلةً عدداً من الطرائق التي تَـزيدُ اللغة غِنىً وثراءً، ويمكن أن تتمثل تلك الطواعيةُ في مرونة تلك اللغة، من خلالِ عمليات صوتية، صرفية، تركيبية ودلالية، وفي ظواهرَ عديدة كالاشتقاقِ، النبرِ، الترادُفِ ومنطقِ اللغة الذي يُمِدّ عمليةَ إنتاجِ الكلام بتنوعاتٍ لها تأثيراتُها في الرسالة اللغويةِ المتجسِّدة في الكلام وما يَحمله من صيغٍ ودَلالات وأساليب وتعابير.
تكاد معظم تعريفات اللغة تؤكد على الوظيفة الاتصالية والتواصلية للغة، عن طريق عملية الكلام، وتؤكد كذلك على أنها “وسيلة لا غنى عنها لاكتساب السلوك المقبول اجتماعياً، فعندما يكتسب الطفل لغته الأم لا يكتسب النطق وحده، واستعمال القاعدة النحوية، إو إضافة زوائد صرفية للكلمة، ولكنه أيضاً يكتسب معها بعض العادات والتقاليد التي ينبغي أن تراعى عند الكلام، وبهذا الجانب الاجتماعي تتأثر اللغة كثيراً”.
هذه السمات تزيد من أهمية اللغة وضرورتها وقيمتها على مستوى الأفراد والمجتمعات، وبذلك “ترتبط اللغة بصورة وثيقة بالإنسان وبيئته. وتكمن أهميتها في كونها تتيح للإنسان إتمامَ عملية التواصل بينه وبين أفراد بيئته وتُيسِّر له التعبير عن آرائه وأحاسيسه وإيصالها للآخرين، فيحقق بذلك ذاته في المجتمع الذي يعيش فيه” ، ويحقق التواصل بينه وبين محيطه وبيئته الاجتماعية.
تتوافر في اللغةِ الكورديةِ مقوماتٌ كالتي تتوافر في أيِّ لغة إنسانيةٍ غيرِها، ولها مقوماتٌ خاصَّةٌ بها تميّزها وتبيّن فَرادتها وخصوصيتَها، واقتصرت مقاربة هذه الدراسة على موضوع الثراءِ ودوره في إنتاج الكلامِ، دون غيرِه من المواضيع الكثيرة التي يحتاج كلٌّ منها إلى أبحاث ودراسات موسَّعة، حيث يَظهر أن في اللغة الكوردية، كغيرها من اللغات، ما قد يكون صعباً على الفهم، وفيها ما قد يبدو بسيطاً لا يحتاج إلى إعمال الفكر فيه كثيراً، لكنها تبقى مثلَ أي لغةٍ إنسانيةٍ، ذاتِ قواسمَ مشترَكة مع اللغات الأخرى، وتتداخل معها، وذاتِ خصوصيات تميِّزها عن تلك اللغاتِ.
خصوصية اللغة الكوردية
اللغة الكوردية مَثَلُها كمَثَلِ أيِّ لغةٍ إنسانيةٍ حَيَّةٍ، هي أيضاً “منظومةٌ من القواعد المختزنةِ في أذهان مستعمليها والمتكلمين بها” ممن تواضعوا ضمناً فما بينهم على طبيعة تلك المنظومة التي -إلى جانب توافقها وتداخلها مع اللغات الإنسانية الأخرى- تمتاز بخصوصيتها وفَرادتها، فضلاً عن قابليتها لإنتاج الكلام وإبداعه، والاستخدام الشخصي في أثناء التكلم، إضافة إلى كونها رابطةً بين أبناء الشعب الكوردي الذين توسَّلوا بهذه اللغة لإنتاج كلامهم وتحقيق التواصل فيما بينهم ونقل فِكْرِهم وثقافتهم وعاداتهم من جيل إلى جيل، رغمَ العوائقِ الجغرافية والسياسية التي تفصل بينهم، ورغم تعدد لهجاتهم وتنوعها واختلافها، وتوافُر كثير من الظواهر اللغوية واللهجية في المستويات الصوتية، الصرفية، النحوية والدلالية التي تعكِس غنى هذه اللغة وتترجم، مرونتَها، إبداعَها، مَنطِقَها وفلسفتَها الخاصَّة بها، كغيرها من اللغات الحيّة والقابلة للتطور والاتّساع والغِنى.
اللغة الكوردية مَظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية للشعب الكورديِّ، وملكيّةٌ عامّةٌ، لكلّ فرد الحقّ في الاستفادة منها وإفادتها، وكما قال ج. ڤندريس (Joseph Vendryes) ” إن اللغة لا توجد خارج أولئك الذين يفكرون ويتكلمون. إنما تمد جذورها في أعماق الضمير الفردي، ومن هنا تستمد قوتها لتتفتح على شفاه الناس. غير أن الضمير الفردي ليس إلا عنصراً من عناصر الضمير الجمعي الذي يفرض قوانينه على كل فرد من الأفراد. وعلى هذا فتطور اللغات ليس إلا مظهراً من مظاهر تطور الجماعات” ، وليست اللغة الكوردية المنتشرة اليوم، إلا امتداداً لقرون طويلةٍ، استطاعت هذه اللغة على امتدادها أن تحافظ على كيانها ووحدتها ونقائها إلى درجة عالية لم تتوافر للُّغات التي عاصرتها أو تعايشت معها أو أرادت أن تصهرها أو تنفي وجودها.
تنبع أهمية اللغة من كونها نتاجاً اجتماعياً، ومجموعة من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما، ليساعد أفراده على ممارسة مَلَكة اللسان، وكذا اللغة الكوردية كانت ولا تزال تمثل النتاج الاجتماعي للشعب الكوردي، ولهذا حاولت الأنظمة السياسية المعادية للوجود الكوردي، أن تربط صَهْرَ الفرد الكوردي ونفي وجوده القومي، بصهر لغته ونفي وجودها وتعريضها للانقراض والتلاشي، لمعرفتها أن اللغة هي من أهمِّ عناصر الهُوِيَّة الشخصية والقومية، وأنها العنصر الأكثر أهمية في الحفاظ على خصوصية الكورد وتمايزهم وتميّزهم واختلافهم عن الآخرين.
تَحملُ اللغةُ الكورديةُ من خلال لهجاتها صوراً من الفصاحة تعكِس وحدتَها اللغويةَ وقابليتَها للتطور والاستمرارية والإبداع، وتتجلى هذه الصورُ في مختلف مستوياتِ هذه اللغةِ، حيث تطورت بفعل عواملَ عديدةٍ، وفي الوقت نفسِه فقدتْ كثيراً من المفردات التي ما عادت تناسب البيئاتِ الجديدةَ التي لم يَعُدْ لها حاجة إلى استعمال كثير من المفردات، منها بعضُ المفرداتِ المتعلقةِ بالزراعة والرَّعي والريف، ومنها ما يتعلق بجوانب من الحياة الاجتماعية. مقابل ذلك استجدت مفرداتٌ في لهجةٍ معيَّنة، لم تكن تعرفها من قَبلُ، فضلاً عن التطور الدَّلالي الذي تظلّ تشهده هذه اللغة، دليلاً على حيويتها وقابليتها لمواكبة ما يطرأ من مستجدات، رغم القصور الملحوظ في آلية هذه المواكبة ومداها وحجمها، وهو قصور لا تعود أسبابه إلى اللغة نفسها، بل تعود إلى المتكلمين بها وإلى غياب المؤسسات وبُطْءِ العمل من أجل تطوير هذه اللغة بما يتوافق مع التطور الحضاري ومتطلباته.
حافظت اللغة الكوردية على عناصرها، خصوصيتها، صفائها وثرائها، وواجهت سياساتِ التعريب والتتريك والتفريس التي مورست بشدة بحقها ولا تزال مستمرة بصورة ممنهجةٍ ومدروسةٍ، بل تكاد تكون هذه اللغةُ أهمَّ عامل يوحّد أبناءَ الشعب الكوردي ويجمعهم في بوتقة أمة تتوزع على جغرافية تَزيد على أكثر من (550) ألفَ كيلومترٍ مربَّع، بتعداد سكانيٍّ يبلغ أكثر من أربعينَ مِليونَ نسمةٍ، بحسب أغلبية التقديرات. وهي اللغة التي دخل معظم المتحدثين بها من الكورد الدينَ الإسلاميَّ، لكنَّ لغتهم لم تَحذُ حَذوَ اللغةِ العثمانية/التركية أو اللغةِ الفارسية، تَيْنِك اللغتين اللتين تكادان تشتملان على عدد كبير من المفردات العربية التي تَمَاهَتا معها وما عادتا تستطيعان التخلص منها، بل رأى بعضهم أن في اللغة التركية أكثر من ستةِ آلافِ كلمةٍ عربيةِ الأصلِ، ورأى آخرون أن الفارسية أخذت أكثر من 50% من مفرداتها من اللغة العربية.
على غرار عملية الانصهار التي تعرضت لها اللغتان التركية والفارسية، لم تخضع اللغة الكوردية إلا قليلاً، وإلا في ما ندر من مفرداتٍ في بعض البيئات المحدودة، دون أن يُخفيَ التسلُّلُ المحدود لبعض المفرداتِ سلامةَ اللغةِ الكورديةِ وصفاءَها. ومَرَدُّ ذلك أن الكورد كانوا في بيئات منعزلة عن الاختلاط بالعرب والفرس والعثمانيين (التُّرك)، وكانت جبالهم حدوداً فاصلةً عازلةً، ولم تكن لهم غايات استعمارية، على غرار الفرس والعثمانيين لبسط نفوذهم على العرب، فلم تكن للكورد حاجة إلى العربية لاستثمارها في صهر العرب في بوتقتهم، على خلاف الفرس والعثمانيين.
العثمانيون الذين احتلوا البلاد العربية أربعة قرون، أرادوا استثمار اللغة العربية (لغة القرآن) لغايات استعمارية، للتحكم بالفكر والعقل العربيين، وتبرير الاحتلال تحت اسم (الخلافة)، في إطار الرابطة العثمانية والدين الإسلامي، بهدف بسط السيطرة على العرب وبلادهم وعقولهم من خلال لغتهم، لكنْ نتج عن ذلك أنِ احْتلَّت اللغةُ العربيةُ لغتَهم، وما عادوا قادرين على التخلص منها حتى اليوم. كذلك أراد الفرس أن يستثمروا اللغة العربية، لبسط سيطرتهم على العرب من خلال لغة القرآن التي تجمع (الفرس والعرب) تحت سقف الدين الإسلامي، للغايات نفسها التي أراد العثمانيون بلوغها، كلٌّ بحسب طريقته وأسلوبه، وكانت النتيجةُ أنْ عجزت اللغةُ الفارسيةُ عن التخلص من الدخيل من المفردات والصيغ العربية.
ثراء اللغة الكوردية
الثَّراءُ لغةً هو الغِنى والكَثرة والزيادة والنَّماءُ، أما ثَراءُ اللغةِ، في سياق هذه الدراسة، فإنه لا يقتصر على كثرة مفرداتها وغِنى معجمها فحسب، بل يشتمل على النَّماء المستمرّ لمعجمها المفرداتي وغناها بالمترادفات والبنى الصرفية والاشتقاقات والتراكيب النحوية، إضافةً إلى غناها بالمعاني والدلالات وتنوع أساليب التعبير بها، والأهم من ذلك كلّه قابليتها للاستعمال والتطور وقدرتُها على استيعاب مستجدات الحياة والحضارة والعلوم. فالثراء يكون مفيداً إذا كان يتماشى مع التطور الذي يشهده الواقع الفعلي الذي تُستخدَم فيه تلك اللغة، بأن تستوعب متطلبات ذلك الواقع وتواكب ما يستجدُّ فيه من مخترعات حديثة واكتشافات، بحيث تكون قادرة على وضع أسماءَ مناسبةٍ ودقيقةٍ لتلك المخترعات، أما إنْ لم تكن اللغةُ كذلك، فإنها ستصل إلى طريق مسدود وتدورُ في فَلَك التكرار والفجوة المعجمية التي ستنتهي إلى اندثار تلك اللغة وتلاشيها.
من مظاهر ثراء اللغة الكوردية، كغيرها من اللغات، أنها تؤدي الوظائف نفسَها التي تؤديها اللغات الإنسانية الأُخرى، من تبليغ، وتعبير انفعالي، وخطابٍ، وتوصيل، وتحقيقٍ وجَماليةٍ، بحيث تستوفي عمليةُ إنتاجِ الكلام من خلال الرسالة اللغوية هذه الوظائفَ كلَّها أو أهمَّها. ومن مظاهر ثرائها أنها صارت لغةَ التعليمِ بمختلفِ مراحلِه، وكذلك صارت لغةَ الإعلامِ الحديث والإبداع الشعري، القصصي، الروائي والمسرحي، ولغة الترجمة، ومن اللغات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي أيضاً، كذلك صارت لغة الدوائر الرسمية في إقليم كوردستان، ولغة المؤسسات والتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب وشبكات التواصل الاجتماعي التي يستخدمها الكورد في كلِّ مكان، إضافة إلى كفاح الكورد الدَّؤوب في الأجزاء الأُخرى من كوردستان (باکور، رۆژاڤا ورۆژهلات كوردستان)، لتكون لغةً رسميةً لا قيود عليها من حكومات (تركيا، سوريا وإيران).
اللغة الكوردية من الثراء إلى إنتاج الكلام
إنتاج الكلام عملية يجري من خلالها تحويلُ القواعدِ الذهنيةِ إلى كلام مسموع (بالنطق) أو مكتوب (بالكتابة والتدوين)، وفق منظومة اللغة المعيَّنة وقواعدها والضوابط التي تصون سلامتَها لفظاً، مبنى ومعنى. ويُقصَد به هنا الكلام السليم لا المغلوط فيه أو الناجم عن أمراض النطق أو غير ذلك، حيث تَمُرُّ تلك العمليةُ في مراحلِ التصور والصياغة والتعبير، لكنَّ المطلوبةَ منها هنا، هي المرحلةُ الأخيرةُ التي يقصد بها ذلك الكلام المتماسك الداخل في بنية المفردات أو التراكيب أو الجمل أو العبارات، وما يلازمها أو ينجم عنها من معانٍ ودَلالات، تتوافق مع المقامِ ومقتضى الحالِ، السياقِ، الحالةِ النفسيةِ وغيرِ ذلك مما قد يؤثر في تلك العملية أو يُصاحبُها.
بما أن عملية إنتاج الكلام ظاهرة فردية، فإنها تحتاج إلى مراعاة خصوصية تلك المنظومة من “القواعد والقوانين المختزنة في أذهان الجماعة اللغوية” التي تشترك وتتفق فيما بينها على تلك القواعد والقوانين التي يجب أخذها بعين الاعتبار في أثناء إنتاج الكلام، بما يتوافق مع المنظومة المجمع عليها بين أفراد تلك الجماعة اللغوية، حتى تؤدي تلك العملية وظائف اللغة والكلام من خلال خطاب/رسالة لغوية كلامية تحمل مضموناً يراد إيصاله من المتكلم إلى المخاطَب. وتعتمد تلك العلمية على الكفاءة اللغوية التي يمتلكها الفرد. فعملية إنتاج الكلام تتسم بخاصية الإبداعية، التي هي من أهم خواص اللغة الإنسانية التي تتكون “من تنظيم كلامي منفتح وغير مغلق.. لأنه يتيح إنتاج عدد غير متناه من الجمل” ، فاللغة ليست وظيفة الفرد، بل هي نتاج يهضمه الفرد، ولا تحتاج إلى تأمل سابق، أما الكلام، فهو فعل فردي، وهو عقلي مقصود .
يتوقف إنتاج الكلام على كفاية تحويل المنظومة اللغوية الذهنية إلى عملية منطوقة مسموعة أو مقروءة تتوافق مع تلك المنظومة، بالجمع بين “المعنى والمغزى”، حيث يتسم المعنى بأنه عموميٌّ يوحِّد حامِلي اللغة بمختلف تنوعاتهم في الفهم، ويكون المغزى مرتبطاً بالتجربة الذاتية الخاصة بالمتكلم والموقف المحدِّد للحوار، أو ما يسمى بالمقام والسياق، من مبدأ أن المغزى يحتوي على طابع شخصي منفرد ويتولد في الذهن الشخصي للمتكلم ويحمل في أثنائه مضمون الرسالة اللغوية التي يريد المتكلم إيصالها متجسِّدةً في الكلام، بحيث يكون ثمة انتقالٌ من الفكرة والمفهوم إلى التجسُّد المادّي في الكلام المنطوق، فتكون عملية إنتاج الكلام جمعاً بين المعنى والمغزى .
يتمثل إنتاج الكلام في عملية الأداء اللفظي للكلام وفق صيغ وتراكيب مترابطة متماسكة، وهي ما تسمى بـ (البنية السطحية) للغة، وتكون ذات علاقة وثيقة مع المنظومة المختزنة في الذهن، وفق الكفاية اللغوية في ما تسمى بــ (البنية العميقة) للغة، من حيث قدرةُ الإنسان على فهم الكلام وإنتاجه وإبداعه. وكلا الجانبين متعالقان يُكمِل أحدهما الآخَر. وفي عملية إنتاج الكلام، على المستوى الصوتي، لا تخرج اللغة الكوردية عمّا تتصف به اللغات الأخرى، ففيها أيضاً صفات متضادَّة (كالجهر والهمس، والشِّدَّة والرّخاوة)، وصفات غيرُ متضادَّة (كالصفير، والتكرار)، وصفاتٌ أُخرى تعرفه جميع اللغات على المستوى الصوتي. يضاف إلى ذلك أن في عملية إنتاج الكلام باللغة الكوردية، ظواهر صوتية لا تختلف عمّا تعرفها اللغات الأخرى، مثل التنوع اللهجي، التنوع اللفظي، الإبدال الصوتي، القلب المكاني وغيرها.
يميز بعض علماء اللغة بين الكفاية اللغوية وبين الأداء الكلامي، “فالكفاية اللغوية هي معرفةُ الإنسانِ الضمنيةُ لغتَه، في حين أن الأداء الكلامي هو الاستعمال الآني للغة ضمن سياق معيَّن. ينجم عن هذا التمييز اعتبار الأداء الكلامي بمثابة الانعكاس المباشر للكفاية اللغوية” . والرسالة اللغوية/ الكلامية ذات وجهين يكمل أحدُهما الآخَر، بحيث يكون إنتاج الكلام وتأديته تمثيلاً للمنظومة اللغوية الذهنية، أي أن تكون البنية السطحية الظاهرة في السلسلة الكلامية انعكاساً للبنية العميقة التي تمثل تلك المنظومةَ الذهنيةَ المتمثلةَ فيها الكفايةُ اللغويةُ التي تُمَكّنُ الفرد من استثمار قدراته اللغوية في إنتاج عددٍ غيرِ محدود للتراكيب والجُمل التي سَمِعَ أو لم يَسمعْ بها من قَبلُ، أنتجها أو لم يُنتجها من قَبلُ.
يتمثل ثراء اللغة الكوردية في وجوه كثيرة، منها: المعجم، الإعراب، خاصية الأرغاتيڤ، الاشتقاق، النحت، النبر، التركيب، الترادُف، الاشتراك اللفظي، الاقتراض، الجَبْر، منطق اللغة، عبقرية اللغة (وهي ما تُعرَف بالابتكار والإبداع اللغويين).
منطق اللغة الكوردية
المنطق في أساسه اللغوي والاصطلاحي يقوم على سلامة التفكير وسلامة التعبير معاً، من مبدأ العلاقة الوطيدة بين آليات التفكير الصحيح لبلوغ النتائج الصحيحة، حيث إن اللغة، في عملية إنتاج الكلام تستعين بآليات المنطق لتعزِّزَ سلامةَ التعبيرِ وصوابَه، وتحرّزَه من اللحن والزَّلَل والشَّطَطِ. كما يمكن وصفُ عمليةِ إنتاجِ الكلامِ بأنها منطقٌ لغويٌّ يقوم على أسسٍ وأصولٍ تَحفَظُ سلامةَ ذلك الإنتاجِ، من حيث المبنى والمعنى. فالعلاقة بين اللغة والمنطق كانت موضوع دراسات موسعة أنجزها بعض علماء اللغة والمختصون في مجال تلك العلاقة .
أكّدت الممارسة العملية للغة في أثناء الكلام، أن العلاقةَ بين منطق العقل، بوصفه آليةً للتفكير الصحيح المُوصِل إلى النتائجِ الصحيحةِ، وبين منطق اللغةِ، بوصفه وسيلةً للكلام السليم المنضبط، علاقةٌ قويةٌ، وإنْ لم تكن علاقةَ تماهٍ أو اتحادٍ بين المنطقين في استنادهما إلى عمليات الاستقراء والاستنباط وغيرهما من العمليات التي تصون الفكرَ (في منطق العقل)، والكلامَ/ الــــنُّـــــطقَ (في منطق اللغة)، من الزَّلَلِ والشَّطَطِ والخروجِ عن شروط التماسُك والترابُط والاتّساق، إضافة إلى اعتماد كلِّ من المنطقين (منطقِ العقلِ ومنطقِ اللغةِ) أحدِهما على الآخَرِ في كثير من الصيغِ التي تحتاج إلى مثل ذلك الاعتماد للتعبير عن الفكر وأحواله ومعطياته، أو التعبير عن المعاني والدلالات، أو تجسيد العلاقة بين الدوالِّ ومدلولاتِها، دون أن يتخلّى أي منهما عن خصوصيته وتميُّزِ مجالِه، ودون أن يكون أحدُهما تابعاً للآخَرِ بقدْرِ ما يكون مكمِّلاً له، خاصة في مقولات الإضافة، المكان، الزمان، الفعل وغيرها، حيث تتميز اللغة الكوردية، كغيرها من اللغات، بمنطق داخليٍّ خاصٍّ بها وبترتيبِ عناصرها اللغوية الخاضعة لنظام هذه اللغة.
في إطار هذا المنحى من الدراسة، فإن عملية إنتاج الكلام، لدى أبناء اللغة الكوردية، لا تخضع للقواعد العقلية الصارمة للمنطق، بل إنها تخضع لسلطة الجماعة اللغوية التي تتفق وتتواضع ضمناً من خلال منظومتها اللغوية على نُظُمٍ تعبيرية وصيغٍ تَقْبَلها قواعدُ تلك السلطة ولا تتناقض معها، حتى يتحقق ما يسمى بـ(منطق اللغة)، وهو منطق خاصٌّ باللغة الكوردية وآليات إنتاج الكلام فيها وفق الأنظمة الصوتية، الصرفية، التركيبية، الدلالية والتداولية لهذه اللغة، إضافةً إلى صَوْنِها من الخطأ في أيٍّ من تلك الأنظمةِ التي تُشكّل بمجموعِها هذه اللغةَ.
ومن أمثلة هذا المنطق ودور الترتيب والتركيب في اللغة الكوردية، ما يلي:
ليس آزادُ وحدَه جيّداً (بل غيرُه أيضاً جيّدٌ)/Ne Azad tenê baş e/Ne tenê Azad baş e
آزادُ ليس جيّداً فحسبُ (بل إنه غيرُ ذلك أيضاً)/ Azad ne tenê baş e
وحدَه آزادُ ليس جيّداً (أما غيرُه فجيّدٌ)/ Tenê Azad ne baş e
آزادُ وحدَه (عندما يكون وحيداً) ليسَ بجيّدٍ/ Azad tenê ne baş e
هو ليس جيداً مثل آزاد/ Ew ne weke Azad baş e
هو مثل آزاد ليس جيداً/ Ew weke Azad ne baş e
لا تكن جيداً مثل آزاد/ Ne weke Azad baş be
مثل آزاد، لا تكن جيداً/ Weke Azad, ne baş be
ومثلها:
أنت لم تضحك معي (فعل الضحك لم يتحقق)/Tu bi min re nekeniya
أنت لم تضحك معي (تحقق فعل الضحك لكنْ مع غري، لا معي)/ Tu ne bi min re keniya
لستَ أنتَ مَنْ ضحك معي (بل غيرُك)/ Ne tu bi min re keniya
ومثلها:
عندما جاء الناس لم نضحك معهم (لم يتحقق فعلُ الضحك)
Dema xelk hatin, em bi wan re nekeniyan
عندما جاء الناسُ لم نضحك معهم (تحقق فعل الضحك، لكنْ مع غير الناس)
Dema xelk hatin, em ne bi wan re keniyan
عندما جاء الناس لسنا مَنْ ضحكوا معهم (لم نضحك، بل ضحك غيرنا)
Dema xelk hatin, ne em bi wan re keniyan
عبقرية اللغة الكوردية
العبقرية مفهوم يطلق على الإبداع والابتكار والاكتشاف في أسمى درَجات القدرةِ على تجسيد الحِذق والنُّبوغ. واقتران اللغة الإنسانية بها يدلّ على العلاقة بين الإنسان وأحدِ أعظمِ إنجازاته على مرّ العصور، ليستطيع التكيف مع الأنماط المختلفة للحياة والبيئات ويتمكن من التعبير عن مشاعره وانفعالاته ونقل تجاربه وأفكاره وتسليمها من جيل إلى جيل، بل إن العبقرية هي السِّمة الأولى للغة الإنسانية التي تكاد تكون أعظم ابتكار يعلو على كلّ ما أنجزه الإنسان منذ بدء الخليقةِ.
أما تخصيص العبقرية بلغة شعبٍ مُعيَّن، بصفتها نموذجاً لأي لغة إنسانية، ففيه دَلالةٌ على مماثلةِ تلك اللغةِ اللغاتِ الأخرى في مدى تفاعلها مع الفكر والواقع، وتَمَثُّل المستجداتِ من المفاهيم والتصورات، فضلاً عن إيجاد الدوالِّ (الصور الصوتية) للمدلولات (الصور الذهنية) وتوافقها مع الموجودات، في الواقع وفي الفكر والنفس، وغيرها من العمليات التي تكاد اللغات تتفق في كثير منها، مع وجود اختلافاتٍ بينها، تُميِّز كلَّ لغة من سِواها، بحيث تَصوغ كلٌّ منها فلسفتَها الخاصَّةَ بها وَفْقَ نظرة أهلِها إلى الموجودات ووفق احتياجاتهم وحاجاتهم ومتطلبات حياتهم، فلا تكون العبقرية حَكْراً على إحداها دون غيرها، لكنْ قد تكون بينها تباينات في درجات تلك العبقرية ومستوياتها، بحسب الاشتغال على اللغة وإنمائها، أو بحسب تلك الاحتياجات والموجودات.
اللغة الإنسانية بصفة عامة، إنجاز عبقريٌّ فريدٌ، ونظامٌ من علاماتٍ ورموز، وأعظمُ وسيلةِ تواصلٍ وتفاهمٍ وتفاعُلٍ بين البشر، وأهمُّ أداةٍ للتعبير عن المشاعر والأفكار واكتساب المعارف والمعلومات وتبادلها. وهي ذات صلة وثيقة بالفكر، حتى تكاد تكون متَّحدَةً معه وتجسيداً حقيقياً له. ويتسم هذا النظام بجملة من الخصائص التي تميزه عن أنظمة التواصل الحيَوانية، وفي مقدمتها خاصّيَّةُ العبقرية التي تقوم على الابتكار والإنتاج والإبداع والتجدّد، ومن هنا كانت لغةُ كلِّ شَعبٍ تحملُ ثقافتَه وفٍكرَه، وكانت معياراً لهما، وهُوِيَّةً له تتجلى من خلالها خصوصيتُه التي يمتاز بها عن سواه في كثيرٍ من القِيم ذات الصِّلةِ بتاريخه وتراثه وعلاقاته وسيرورة حياته الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، الجغرافية والثقافية، لهذا ارتبطت اللغة بالإنسان ارتباطاً مُحْكَماً، بوصفه كائناً يمتلك هذه الثروةَ التي مَهمَا صرَفها فإنها لا تَـنْـضُب، بل إنها تزداد غِنىً بقَدر استخدامها وتوظيفها والعمل عليها، وتطويرها وإغنائها.
من مؤشرات عبقرية اللغة الكوردية بالنسبة إلى الكوردي، إضافةً إلى الخصائص التي تميزها، أنها اللغة الأم التي يتحدث بها ويفهمها ويتقنها ويتمسك بها لإثبات ذاته وشخصيته وهُوِيَّتِه. هذه اللغة هي التي يمكن أن يعبّر بها الكوردي عمّا يريد تماماً، كتعبير العربيّ بلغته عمّا يريد، كذلك الفرنسيِّ والإنكليزيِّ والعِبريِّ، كلٍّ منهم بِلُغَتِه. كذلك تتجلى عبقرية هذه اللغة في الإبداعات الشعرية والقصصية والروائية والفكرية، وفي الأغاني الفلكلورية والشعبية وغيرها مما يعكس ذلك الثراء وتلك العبقرية، في مجالات الاشتقاق والتصريف والتركيب والتعبير والتنويع في الأساليب، وغيرها مما سبقت الإشارة إليها.
============