رشيد حسو لا يكتفي بتنظيم تجربته بل بإبلاغها

غريب ملا زلال

“إن لم تجدني بداخلك، فإنك لن تجدني أبداً”
قول قاله جلال الدين الرومي، تذكرته وأنا أطوف بين أعمال التشكيلي رشيد حسو، بل أحسست أن أعماله تلك تخاطبني بهذه الجملة، وكأنها تقول لي: التفت إلى دواخلك فأنا هناك، وإذا أردت أن تقرأني جيداً اقرأ ما في هذا الداخل وأنت تتأملني. وقد تكون هذه المقدمة وخزة لمفهوم القراءة التشكيلية: مَن يقرأ مَن؟
هل نحن نقرأ اللوحة أم هي التي تقرأنا؟ وبالتالي، كل ما نقوله وما نكتبه هو ما تولده اللوحة في دواخلنا، فقط نحن نقوم بالترجمة.

وما يفسر هذه الحالة قد تكون تلك الإعتباطية القائمة على إلحاق الظاهرة بمعطيات تفرضها مقتضيات الداخل التي تجعلك تنتقل عفوياً إلى أصوات هي التي تقود ذاكرتك نحو تحويل الجوهر من الملموس إلى المجرد. أقول: قد تكون تلك الإعتباطية فاعلة إلى حد كبير في تجربة رشيد حسو، في تشكلها وإقلاعها، والتي تملك قيمة معرفية بمردود تحليلي هي في واقع الأمر متواليات صوتية تلحق تغييراً ما في مفهوم التصور الذهني لديه. وهذا يشكل علامة لتصنيفاته الموجودة داخل تجربته، فالأمر هنا لا يتعلق بحسو كنسق ثقافي، بل بمنتجه كحقل معرفي تُربته هي مجهودات حسو في تعامله مع هذه التجربة التواصلية مع الإنسان، بوصفها ألسنة عدة تستحوذ على الكثير من الإيماءات التي يستخدمها ضمن قدرته على الخلق خارج أي إخضاع لأداة يسقطها في التكيف مع سلوك يحكمه اعتبارات أخلاقية/اجتماعية.

فهو لا يكترث بتلك الإجراءات التدليلية التي تجعله يمسك المعنى ويلاحقه في جميع مواقعها، أو يقودها نحو تحديد خاصيتها، فحسو يطلق اللسان لعمله وفي جميع الحالات، بل في جميع الوحدات المنتمية إلى حامله، الذي يملك البحث كأهم خاصية من الممكن أن يحرك بها حسو كيانه التعبيري. فركاماته من الألوان بإجراءاتها الدقيقة هي بحد ذاتها وحدة جمالية تستدعي الربط بين أكثر من جهة، وبالتالي بين أكثر من عنصر. وهنا يكمن سر بصمته الفنية التي تتحدث عن نفسها بكل اللغات وتنشط الذاكرة الذاتية لديه، التي لا تحتاج إلى ضبط الصوت ولا إلى إجراءات التعيين، بل إلى إمكانيات البحث بأشكالها وإشاراتها على نحو يرقى بها نحو وجود غير محكوم بقوانين تحدد هويتها.

فلن تكون الذاكرة الجمعية عاقرة، بل ولودة بعلامات تغطي الكثير من أعمال حسو، والكثير من أنماط تصنيفاته المبنية وفق علاقة فعل الإنتاج بلحظة تحققه. وبذلك، تكون صياغاته التشكيلية نسيجاً من العلامات التي قد تكون هي السيرورة المؤدية إلى إنتاج الدلالات مع القبض على أنساقها جميعاً. وهذا ما يبرر لنا قراءة بناء نصوصه/أعماله قراءة انبثاقية متبادلة تعيدنا إلى التساؤل الذي طرحناه في بداية هذه المادة: من يقرأ من؟ اللوحة والمتلقي.

فأعماله تحمل دوائر غير تقليدية تدور في تخوم الوقائع، بوصفها تصنيفات بصرية تزود مناطقنا في ضفافها الأخرى بمعرفة مشهدية مهمتها ولادة جديدة بمعطيات تُبنى على رؤية قد تكون جديدة، وقد يحملها تأويلها إلى آفاق عديدة سعى إليها الكثير من الفنانين، ورسموا في ما وراءها خطابهم الجمالي بتحديد الوعي المعرفي أو تفعيله، داخل تلك المنطلقات أو خارجها، وقد تكون على حوافها لغاية غير معلنة، ومتشعبة تتخذ من المفاهيم العامة أداة لمعرفة الأشياء التي يطلقها حسو في أذهان متلقيه لكسر التشيؤ فيه وتحريك حاسته التاسعة ليخرج من المجالات الضيقة نحو تأويلات متباينة، يجعله يجمع الإشارات الإيحائية مع بعضها لإطلاقها من جديد كحالات إبلاغية نحو خطاب تنتظره الحافلة بذهنية متبلورة تتجاوز جدارها.

فحسو لا يكتفي بتنظيم تجربته، بل بإبلاغها على شكل كيانات ذهنية تسكن في عينه المدركة لشبكة علائقه ذات نمط مدروس بعناية حدسه، والتي ستكون هي الضمانة لتكهنه وتحوله من مجرد معطيات بصرية إلى معطيات حسية، دون أن يهمل أو يتجاهل أي واقعة قد تلد في فضاءاته ويكشف عن امتداداتها.

فحسو يستمد قوته من قدرته على استيعاب العناصر كلها التي لها علاقة بالبنية الإدراكية، تلك العناصر التي تلائم ألوانه في تآلفها، وإن من وجهة نظر معينة، ثم يعيد بناءها – أقصد تلك العناصر – وفق قوانينه هو وضمن كيان يخصه هو، وبإمكانات محكومة بشروطه هو، حتى الذات عنده متكلمة بمقاماته هو.
وحده غرابه يخفق بجناحيه ويطلق نعيقه بين محاور أحزان لأشجار تخصنا جميعاً وتخصه هو.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…

صدرت الترجمة الفرنسية لسيرة إبراهيم محمود الفكرية” بروق تتقاسم رأسي ” عن دار ” آزادي ” في باريس حديثاً ” 2025 “، بترجمة الباحث والمترجم صبحي دقوري، وتحت عنوان :

Les éclaires se partagent ma tête: La Biography Intellectuelle

جاء الكتاب بترجمة دقيقة وغلاف أنيق، وفي ” 2012 ”

وقد صدر كتاب” بروق تتقاسم رأسي: سيرة فكرية” عن…

كردستان يوسف

هل يمكن أن يكون قلم المرأة حراً في التعبير؟ من روح هذا التساؤل الذي يبدو بسيطاً لكنه يعكس في جوهره معركة طويلة بين الصمت والكلمة، بين الخضوع والوعي، بين التاريخ الذكوري الذي كتب عنها، وتاريخها الذي تكتبه بنفسها الآن، فكل امرأة تمسك القلم تمسك معه ميراثاً ثقيلا ً من المنع والتأطير والرقابة، وكل حرف…