عبدالرحمن دريعي الفنان الذي ظلم نفسه فظلمناه أكثر.. على هامش ذكرى رحيله

غريب ملا زلال

قبل أن يدخل الفنان عبدالرحمن دريعي يوم ٢٢-٥-٢٠٠١ إلى غرفة العمليات، حيث كان يعاني من ورم خبيث يفتك رئته، حوّل غرفته في المشفى إلى معرض فني. فلم يكن القلم يبرح أصابعه، يرسم به وجوهاً عذبة قد ترسل الفرح في أرواح متعبة لأكثر المرضى. كان يزرع الجمال و يسقيه أينما حل. دخل إلى غرفة العمليات بأمل كبير، لكن الأمل كانت ابنة زنا خانته وغدرت به في عز تفاؤله.

كان يجمع بين الرسم والنحت والموسيقا والشعر، وأبدع فيها جميعاً، ولكن مع الأسف الكبير ذهب أكثر ما تركه لنا ضمن الحريق الذي هب في بيته في قصف للنظام على حلب، فأخذ كل تلك الثروة. ولهذا تعذبنا كثيراً للوصول إلى القليل مما تبقى بين أيادي أبنائه وأصدقائه، وجلّها اسكتشات سريعة.

يُعتبر دريعي أحد أهم مؤسسي الفن التشكيلي في الشمال الشرقي لسورية، وكان له أثره على الجيل، فكان الأب الوفي بل الروحي لكل من أحب اللون وحمل الريشة وقتذاك. ولعل أكثر من شق طريقه من هؤلاء ولمع اسمه في الساحة الفنية العالمية عمر حمدي (مالفا)، الذي بقي وفياً بدوره لأستاذه وتأثيره عليه، إذ يقول في أحد حواراته:

“قبل تخرجي من المعهد، بقليل، سكن في بيتنا، في الغرفة الثانية، بالإيجار، شاب في العشرينات، مع زوجته، قادماً من عامودا، اسمه عبدالرحمن دريعي.
كان يعزف على الناي مساءً، ويرسم في النهار.
كان عبدالرحمن أول معلم لي في الرسم. كلما غاب عن البيت، وضعت حجراً تحت قدمي، ونظرت عبر أسفل النافذة العريضة إلى لوحاته.
مرة سمعته، يقول لوالدي: (دع عمر وشأنه، دعه يرسم، سيأتي يوم ليتركه، حين يكبر).
كان عبدالرحمن فقيراً مثلنا، وكان حزيناً في عزفه للناي الخشبي.”

وآخرين كثر، تاه بعضهم في أزقة السياسة الضيقة بل القذرة.

ويُعتبر دريعي، دون منازع، أميراً للناي على امتداد الخارطة الكردية والعربية معاً، أبدع فيها أيما إبداع. وكان يشغل أمين سر الجمعية الموسيقية بالحسكة عام ١٩٧٠. كما أنه قدّم مع كل من محمد شيخو، وشفان برور، ومحمد طيب طاهر، ومحمود عزيز، وجميل هورو، وآخرين، معزوفات ستبقى خالدة في ذاكرة أكثر من جيل.

ودريعي أكثر من ظُلم؛ من نفسه أولاً، ومن آل بيته ثانياً، ومن أصدقائه ثالثاً، ومن أبناء جلدته رابعاً، ومن بعض الذين تتلمذوا على أصابعه. فهو مهّد للفن التشكيلي في الشمال الشرقي السوري، حوّل الفضاءات التشكيلية إلى حقول وتناغمات بصرية، قد تكون محاولة أولى في البحث عن صيغ تجمع التعبير حيناً، والتصريح ذي الدلالة حيناً آخر. فهو ينطلق من مساحات مفتوحة الجهات لاختصار المسافات، وتوظيف لغة ملائمة لاهتماماته بها، يتخطى المجال الزمني…

وليس آخراً، هل سيكون بمقدورنا أن نعيد له اعتباره؟ فنُسرع إلى جمع ما تبقى من أعماله وأشيائه في متحف صغير، في بيت صغير، في مدينة صغيرة (عامودا) جميلة كروحه، ليكون مكرمة من أبنائه ومن أحفاده الفنانين له.

ولا بد أن نذكر بأن عصا شارلي شابلن وقبعته خالدتان، كذلك ستُخلّد ناي دريعي وريشته.

٢٤–٠٥–٢٠١٧

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…