الرعاة (الكوجر) وعبور النهر

د. علي صالح ميراني

 

كان الربيع قد ألقى بوشاحه الأخضر على الأرض أخيرًا، وتفتحت الأزهار في كل ناحية، وكأن الطبيعة تنادي بالرحيل نحو الخِصب. ففي هذا الفصل، تصفو السماء، وتلين الأرض، ويخرج الرعاة بأغنامهم لعبور الضفة الأخرى من النهر المتدفق بين الوديان العميقة.

في الواقع، اجتمع القطيع قرب مجرى النهر، حيث كانت المياه تنساب بين الصخور، وتتراقص في ضوء الشمس مثل خيوط من الفضة المذابة بحنان.

وقف الراعي الأكبر سنًّا يتأمل النهر، الذي يعرفه كما يعرف كفَّ يده، ويدرك أن عبوره ليس أمرًا هيِّنًا، لكنه ضروري، فهناك على الضفة الأخرى، المراعي الخصبة التي لا تُقاوَم.

بدأت الأغنام الكبيرة بالعبور أولًا، بخطى واثقة، إذ قفزت بين الصخور المتناثرة، كأنها حفظت الطريق منذ صغرها، أو كأن الصخر نفسه يفتح لها ذراعيه، فيما وقف أحد الرعاة على الضفة المقابلة يلوّح بشدة، بينما بقي آخر في مكانه، يتأهب لمرافقة الصغار.

أما الحملان الصغيرة، فكانت مترددة، ولم تعرف بعد طعم الانجراف في التيار، ولا حيلة القفز بين الصخور. وبعضها وقف عند حافة النهر تتأمل انعكاسه، كأنها ترى وجهه للمرة الأولى.

الراعي لم يتأخر، إذ نزل إلى النهر حافي القدمين، ورفع ثوبه إلى خصره، ووقف على صخرة وسط النهر، وبعصاه الطويلة كان يسند ظهور الحملان، يشجعها، ويدفعها بلطف، وكأنما يعلّمها الخطوة الأولى في مشوار الحياة.

وكلما وصلت إحداها إلى الضفة الأخرى، هزّت جسدها، ونفضت الماء عن صوفها، كمن يتحرر من عبء خفي. وبعضها كان يلتفت إلى الوراء، تبحث بعينيها عمّن تبقّى، وكأن القطيع لا يكتمل إلا بعبور الجميع.

إحدى الغنمات عادت أدراجها، فقد تركت صغيرها خلفها. رآها الراعي، فبادر إلى حمل الخروفين بيديه، واحدًا في كل يد، وسلّمهما لرفيقه على الضفة الأخرى. هكذا فقط تستكين الأمهات، ولا يعلو نداء الشوق بين الصفوف.

لم يكن العمل سهلًا، والساعات مرّت كأنها أيام، لكن الرعاة لم يتذمروا، إذ يعلمون أن لكل قطيع طريقًا، ولكل طريق مشقّته.

الأغنام الكبيرة عبرت بسلام هي الأخرى، ويكفي أن ترى المرياع، أو تسمع صوت الراعي، فتسرع إلى الجهة الأخرى. لكن الخراف كانت سرّ مشقة الرحلة، وأصعب اختبار فيها.

ومع عبور أغلبية القطيع، بدأت الأرض الجديدة تُغري الباقين، الذين رأوا العشب الأخضر من بعيد، فازداد الشوق، وتدفقت الرغبة في العبور. ومع ذلك، كانت هناك غنمة ترتجف في مكانها، خافت، وتراجعت، رغم محاولات الراعي.

رَمى بعض الحصى نحوها، لا ليؤذيها، بل ليدفعها نحو القرار الحاسم. ثم لحق بها، وأجبرها على العودة إلى النهر، وقادها خطوة خطوة حتى وقفت على صخرة، والماء يجري من تحتها.

هناك، صرخ فيها بصوته العالي، وصفّر، ولوّح، حتى قفزت أخيرًا، وعبرت.

 جاء دور الرعاة أنفسهم، إذ رفعوا ثيابهم، وشدّوها إلى خصورهم، وحملوا أجسادهم وأحذيتهم الثقيلة عبر الماء. ولم يتبقَّ سوى الكلب، ذاك الذي كان يختبئ خلف صخرة، يخاف الماء كما يخاف الغريب المجهول.

اقترب الراعي منه، وأمسك برأسه، ورافقه وسط التيار القوي. وعندما بلغا منتصف النهر، أدرك الكلب أنه لا طريق للعودة، فأطلق العنان لأقدامه، وركض بكل ما أوتي من عزم.

وفي النهاية، كانت هناك الأغنام التي أصابها العرج، أو جرحتها الحياة. أغنام تسير ببطء لا يعرفه التيار، ساعدها الرعاة كما يفعل الآباء مع أولادهم، بلا ضجر، ولا كلمة واحدة من ملل. فهؤلاء لا يمكنهم العبور وحدهم، لا بلا أيدٍ تمسك بهم، ولا بلا عكازات الرحمة.

وهكذا، اكتمل العبور. ووصل القطيع إلى الضفة الأخرى، حيث الرعي ممتد كأملٍ مرتقَب، والراحة تنتظر بعد تعب طويل. إذ لم يكن مجرد عبور نهر، بل كان عبورًا نحو الحياة، نحو اختبار من الصبر، والمحبة، والمسؤولية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أصدرت منشورات رامينا في لندن حديثاً المجموعة القصصية “تبغ الفجر” الشاعر السوري الكردي علي جازو، في كتاب يضم اثنتين وعشرين قصة قصيرة تتنوع بين النصوص اليومية المكثفة والمقاطع التأملية ذات الطابع الشعري والفلسفي.

تتّسم قصص المجموعة بأسلوب سرديّ دقيق، يبتعد عن الزخرفة اللغوية ويميل إلى الكتابة من الداخل. الشخصيات تتحدّث من دواخلها لا من مواقفها، وتُركّز…

خوشناف سليمان ديبو

 

يُعد الأديب والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي من أبرز وأعظم الروائيين في تاريخ الأدب العالمي. فقد أدرِجت معظم أعماله ضمن قوائم أفضل وأهم الإبداعات الأدبية وأكثرها عبقرية. وتكمن أعظم ميزات أدبه في قدرته الفذة على سبر أغوار النفس البشرية، وتحليل خفاياها ودوافعها العميقة. قراءة رواياته ليست مجرد متعة سردية، بل رحلة فكرية وروحية تُلهم…

غريب ملا زلال

شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه…

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…