فضاء أينشتاين: سقوط في جاذبية الحب “تجربة أدبية هجينة بين القصة والخاطرة وقصيدة النثر”

إبراهيم أمين مؤمن

 

سرتُ بكِ على الدرب، ملكًا بصولجان، واثق الخطوة، تخشع لي الكائنات. توجتكِ ملكةً على عرشي، ألبستكِ الحرير والاستبرق، ومددتُ راحتي بساطًا لقدميكِ، فلا جبٌ سحيق يهوي بكِ، ولا بيداءٌ تفقدكِ بين الوحوش. كنتِ محور الكون، وكنتُ الفلك الذي يدور حولكِ، شمسًا في مدار لا يغيب، ونجمًا ثابتًا في سماء لا تعترف بالتبدّل. لم يكن لي رغبة في شمسٍ تستقل، أو كوكبٍ ينفصل عن مساره. كنتِ مركز الجاذبية، وكنتُ أسير في مداركِ، لا أشكُّ في أنني وجدتُ نقطة الاتزان الوحيدة في هذا الوجود المتشظي.

أضيء لكِ دربك بمشكاةٍ تُشعُّ بنورٍ لا يخفت، نورٍ يرقص على خيوط الفجر، فيتألق بين لهيب عينيكِ النجمية واختيال خطواتكِ الطاووسية. كان دربًا حيًا، تنبت فيه الأزاهير، وتصدح فيه البلابل على خرير ماء السلسبيل، تتردد كتراتيل داوود بين جدران القصر الذي شيّدته لكِ بدموعي وأمنياتي. أسكنتكِ قصري، حيث تدور الكواكب في فلكه، بعدما أعلنت شمسه يوم استقلالها، فلم يعد لها سيدٌ غيركِ. كانت العوالم كلها تنحني لكِ، وكان القلب قارةً لا تستقبل سوى هطولكِ.

لكن، غيمة خفيفة بدأت تتسلل، لم أدركها في البداية…

كانت ليلة صافية، غير مثقلة بالغموض، لكن وقع خطواتكِ بدأ يختل. لم يعد له ذات الرنين، ذات الثبات، ذات الإيقاع الذي حفظته روحي. أصبحتِ تسيرين برتابةٍ خافتة، كأنما تتحاشين أن يلحظكِ الكون وأنتِ تخططين للرحيل.

بدأتُ أستشعر الفراغ يتسلل بيننا، كهواءٍ بارد لا يُرى لكنه يوجع الجسد ويقشعر القلب. كنتِ هناك، لكنكِ لم تعودي كما كنتِ. لم يعد النبض واحدًا، ولا المدار ثابتًا. ثم جاءت الصوتيات الجديدة – الطبول، المزامير، نوتات الرحيل التي كنتُ أجهل لحنها. كانت الأرض تتهيأ لرحيلي عن عالمكِ، وأنا لا أملك إلا أن أقف هناك، أستمع لكلمات لم تكن لي، وأراقبكِ وأنتِ تفتحين كتاب الرحيل، وتمزجين لي طلاسم الفراق، تدونينها كأنما هو قانون لم يعد يقبل المناقشة.

كنتُ أقف على عتبة النهاية، أنتظر امتداد يديكِ التي لطالما كانت ملاذي، لكنهما لم تمتدّا.

كان زفيركِ يحرقني، وسيفُكِ يُشَعشعني، فكيف أردُّ سطوعه قبل أن يخترقني؟

قلتُ لكِ، وقلبي يذوي: “لمَ تختمين أكتافنا بوشم اليباب؟ ألم يؤنسكِ حبي؟ لمَ الرحيل؟ أتريدين أن ننظر معًا في وجه الفناء؟ أن نتلمس طريقًا أعمى إلى جحيمٍ لا نجاة منه؟”

لكن القصر بدأ يتفكك من حولي، لبنةً تلو أخرى.

سقطتُ على الأرض، وصرختُ بصوتي المحترق: “انزعي عن جسدكِ ثوب خطتكِ العمياء، لا ترحلي، سأحترق، سأتمزق، سأنهدم.” ونكستُ رأسي تحت قدميكِ، سفحتُ دموعي على موطئكِ، قلتُ برجاء “سوف تهجر الملائكة مطايا حمام قصركِ، ستترك الطيور أوكارها، وتجف الأنهار، ويهوى القصر فوق كل الأبرياء. ألا ترين كيف يتحطم كل شيء؟”

لكن ردّكِ لم يكن صوتًا، كانت نظرة جامدة كالصخر، ثم ابتسامةً خافتة فيها مرارة لا أقوى على فهمها، كأنما كنتُ أطلب المستحيل. ووطئتِ رأسي حتى عبرتِ باب الرحيل.

انتظرتُ، قلتُ قد ترجع. لكن الزمن بدأ يجرني على نسيجٍ من جمر، يجلدني صراط الانتظار، كل ثانية تمر تسرق عامًا من عمري، كل لحظة تُحرّق جزءًا مني، حتى تحولتُ إلى رمادٍ متناثر فوق البلاط الذي كنتِ تمشين عليه. لم يعد هناك صولجان، لم يعد هناك عرش، لم يعد هناك قلبٌ يتنفس سوى على الهامش.

فجأة، طُرحتُ في ثقبٍ أسود، كسمِّ الخياط، التهم كل شيء، ولم تسمع أذني سوى لُهَب نيران تأكل نفسها.

لقد تحول القصر إلى أطلالٍ خاوية، ولم تعد هناك شمسٌ تدور حولي، ولا كواكب تعلن الولاء. لم أجد سوى مركبة الأحزان، أقلتني نحو أفقٍ مشوه، ووقعتُ تحت جاذبية الثقب. تباطأ الزمن، فهرمتُ قبل أن ألقي حتفي فيه. ثوانٍ مرت، لكنها انتزعت من عمري سنين، شابت فيها عواطفي، وانحنى ظهري، وتدلى جفني، وضعفت عظامي أمام ثقبٍ تكون من نيران الرحيل.

ذهب العمر هباءً، وما كان وعدُكِ إلا شبحًا، ولم أدرك نفسي إلا عندما أخبرني العدم: “هنا، حيث لا نهاية للجاذبية، ولا مفر من السقوط الأبدي.”

 

   24-5-2025

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف

الكتابة البقاء

لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال من هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن…

أعلنت دار الخياط – واشنطن عن صدور رواية جديدة للكاتب والباحث السوري مازن عرفة بعنوان «نزوة الاحتمالات والظلال»، لتضاف إلى سلسلة أعماله الأدبية التي تجمع بين العمق الفكري والخيال الجامح، وتفتح أفقاً جديداً في السرد العربي المعاصر.

وتطرح الرواية، التي جاءت في 190 صفحة من القطع الوسط، عالماً غرائبياً، تتقاطع فيه نزوات الطغاة مع رغبات الآلهة،…

غريب ملا زلال

أحمد الصوفي ابن حمص يلخص في تجربته الفنية الخصبة مقولة ‘الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح’، وهو كثير الإنتماء إلى الضوء الذي يحافظ على الحركات الملونة ليزرع اسئلة محاطة بمحاولات إعادة نفسه من جديد.

يقول أحمد الصوفي (حمص 1969) في إحدى مقابلاته : “الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح”، وهذا القول يكاد ينبض في…

عبد الستار نورعلي

في الليلْ

حينَ يداهمُ رأسَك صراعُ الذِّكرياتْ

على فراشٍ مارجٍ مِنْ قلق

تُلقي رحالَكَ

في ميدانِ صراعِ الأضداد

حيث السَّاحةُ حُبلى

بالمعاركِ الدُّونكيشوتيةِ المطبوخة

على نارٍ هادئة

في طواحينِ الهواء التي تدور

بالمقلوبِ (المطلوبِ إثباتُه)

فيومَ قامَ الرَّفيقُ ماوتسي تونغ

بثورةِ الألفِ ميل

كانتِ الإمبرياليةُ نمراً..

(مِنْ ورق)

بأسنانٍ مِنَ القنابلِ الذَّرية

ومخالبَ مِنَ الاستراتيجياتِ الدِّيناميتية

المدروسةِ بعنايةٍ مُركَّزَة،

وليستْ بالعنايةِ المُركَّزة

كما اليوم،

على طاولته (الرفيق ماو) اليوم

يلعبُ بنا الشّطرنج

فوق ذرى…