ماهين شيخاني
في زقاق قديم من أزقة مدينة تتقاطع فيها الطوائف واللغات، وترتجف على وقع الحروب والهدن المؤقتة، كانت بنايتنا تقف شامخة، كأنها تعاند العواصف وتحنّ إلى زمنٍ مضى. كانت البناية مقسومة إلى جناحين متقابلين. الجناح الأول، الطابق الأرضي منه لعائلة كردية، والطابقان العلويان للأخوة المسيحيين. أما الجناح الثاني، فكان الطابق الأرضي لي، بينما يسكن الطابقين الأعلى عائلات كردية أخرى.
وفيما بين البنايتين، كان هناك “منور” صغير، فسحة سماوية تُدخل الشمس والهواء وتمنح الجدران فرصة للتنفس. في زاويته بابٌ خشبي استخدمته الجارة المسيحية لسنوات، تمرّ من خلاله لتُدخل أسطوانة الغاز أو تحرّك برادًا قديمًا أو بعض الأغراض الثقيلة. لم يكن ذلك الباب مجرد ممر، بل كان رمزًا صغيرًا لذلك الزمن الذي لم نكن فيه نحسب الجوار بالهوية، بل بالخبز والملح.
ثم، ذات صباح رمادي، وصل الغريب.
اشترى أحد العروبيين بيتًا قديماً مهدمًا خلف منورنا. لم يلبث طويلاً حتى هدمه، وجلب معه متعهد بناء كورديًا، لكنه بلا ضمير، ممن يبيعون شرف المهنة لمن يدفع أكثر. لم أكن في البلاد حينها. كنت أتنقل في الغربة أبحث عن لقمة كريمة. وكان بيتي مؤجرًا لعائلة شريفة تعرف تفاصيل البناء وأخلاق الجوار.
حين عدت، وجدت البناية الجديدة قد ارتفعت كجدار صدٍّ يبتلع الضوء والهواء. لقد أغلقوا المنور، وسدّوا الباب، كما لو أن السنوات التي جمعتنا لم تكن. لم يسألني أحد، لم يُعلّق جيراننا، ولم يصلني إشعار رسمي. مجرد جدار جديد، يعلن بصمته أن زمن المشاركة انتهى، وأن زمن السطو قد بدأ.
ذهبت إلى البلدية، فكانت المفاجأة: البناء لا يملك ترخيصًا نظاميًا، بل أقيم باتفاق خفي بين موظف مرتشٍ وقريب له، محامٍ هارب من العدالة. رفعت دعوى. ظننت أن القضاء سيعيد إلي حقي، فالوثائق التي أملكها لا تقبل الشك، والمخالفات صارخة كالشمس.
لكن ما لم أتوقّعه هو أن المحامي الذي وكلته للدفاع عني، كان يبيع قضيتي من تحت الطاولة. كان في جلسات المحكمة يبتسم في وجه الخصم، ويماطل في تقديم المستندات، حتى تيقنت أنه جزء من اللعبة.
أما الخصم، فاستعان بمحامٍ آخر… رجل سكير، يبيع أهله مقابل زجاجة عرق. كان يعرف أين يضغط، ومتى يُخرج ورقته الرابحة.
في إحدى الجلسات، قدّم خصمي وثيقة. قال إنها عقد شراء قديم. حملت ختم محكمة، وتوقيع “المالكة السابقة”… لكن تلك المرأة توفيت منذ خمسة عشر عامًا!
كانت الورقة مزوّرة، لكن القاضي لم يُحرّك ساكنًا. تجاهل الاعتراضات، وأغلق الملف بقرار لصالح المعتدي.
تخيلوا ذلك: امرأة ميتة منذ عام 2003، تظهر فجأة لتوقّع عقد بيع عام 2018! ونحن، أصحاب الأرض والمفتاح والذاكرة، نُصبح غرباء يُطلب منا إثبات حقنا أمام توقيعٍ من قبر.
خرجت من المحكمة مكسورًا، لا لأنني خسرت دعوى، بل لأنني أيقنت أن القانون هنا لا يُطبّق إلا على من لا سند له، وأن الحق ليس من يأتي بأوراقه، بل من يشتري صمت القاضي، وضمير المحامي، وختم المحكمة.
باب الجارة لم يعد موجودًا. المنور صار قبرًا صغيرًا للعدالة. والبناية الجديدة ارتفعت طابقًا فوق الحق، وسقفًا فوق الذاكرة.
ربما ليست حكايتي فريدة. فكل كوردي يعيش في وطنٍ يتحكم فيه غرباء، يعرف كيف تُغلق الأبواب، وكيف يُباع الهواء، وكيف يُزور التاريخ.
نحن، أصحاب الأرض، أصبحنا خارج الأسوار.
أما الطارئون، فيشترون الشقق بمالٍ فاسد، ويشترون معها القانون والعدالة و… الصمت.
“قد يكون الباب صغيرًا، لكن ما خلفه كان بيتًا، وحقًا، وتاريخًا. وسرقة الباب ليست إلا وجهًا صغيرًا لسرقة وطن.”