رجلٌ يلبس الصدق

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا بأحد المعارف، وتحت إلحاحه جلسنا نشرب الشاي على بساطٍ أرضيّ تفوح منه رائحة النعناع اليابس. تبادلنا الأحاديث والضحكات، وكلّ شيء كان بسيطاً… حتى اللحظة التي ظهر فيها “هو”.

رجل غريب الطلّة، مهيب الحضور، بدا وكأنه خرج لتوّه من كتب التراث. عمامة بيضاء، وجُبّة طويلة تُلامس الأرض، لكن ملامحه… كانت قريبة. دافئة، وادعة، كأنها تقول بلا كلمات: “أنا واحد منكم.”

سلّم علينا بتحية الإسلام، وابتسامة خفيفة تُشبه من عرف الطريق، وعاد لينسى نفسه بين الناس. ردّ الجميع التحية وقاموا احتراماً لهيئته، أما أنا… فبقيت جالساً.

لم يكن الأمر تهاوناً، بل شيء في داخلي تمنّع، ربما تمرّد. كنت قد سئمت من عمائم تمرّ من فوقنا، تطلب الطاعة ولا تفهمنا، تتعالى باسم الدين، وتبتعد في لحظة الحاجة.

رأيت في رموزهم كثيراً من التصنّع، وكثيراً من الضحك على البسطاء… فكيف لي أن أقف لهم مرة أخرى؟

رحت أراقبه من بعيد… كيف تمشي خلفه العيون، وكيف تلتف من حوله الهالات لمجرّد أنه ارتدى عباءة الدين.

وما لبث أن صعد منصةً قريبة. رفع يده بهدوء، ثم بدأ حديثه بصوت لا يشبه الخطباء.

لم تكن موعظة تقليدية. لم يتحدث عن الحلال والحرام، ولا لوّح بسيف الوعيد. كان حديثه مختلفاً، صادقاً، كأنه يقرأ ما في قلبي دون أن ينظر إليّ.

قال، بنبرة يسكب فيها شيئاً من الألم:

“وأنا قادم إلى نوروز، صادفت مشاهد لم تُفرحني.

رأيت امرأةً انزلق شالها وهي ترتب خيمتها، وما إن رأتني حتى سارعت بتغطية شعرها، تتمتم وتلوم نفسها: يا ويلي، الشيخ شافني!

وسمعت فتياتٍ يضحكن، فلما اقتربت منهن، سكتن فجأة، ثم قالت إحداهن لصديقاتها: شوفوا، شيخ جاي على نوروز!!

سكت، ثم تابع بصوت هادئ أقرب إلى الاعتراف:

“لو كنّا نشارك شعبنا كل نوروز، لما استغربت الفتيات رؤيتنا. لو كنا معهم في أفراحهم، كما في مآتمهم، لما ارتبكت تلك المرأة، ولما شعر أحد أن وجودنا عارِض، غريب. لقد أخطأنا حين اعتزلناهم… حين طالبناهم باتباعنا دون أن نشاركهم الطريق.

الدين ليس فوق الناس… الدين معهم. في قلوبهم، في خيامهم، في ضحكات بناتهم وهم يحيون الربيع.”

ثم هزّ رأسه ببطء، كمن يعتذر عمّا مضى، كمن يقول: تأخرنا، لكنّا قادمون.

حين نزل عن المنصة، وجدتني واقفاً دون أن أشعر.

خطوت نحوه ومددت يدي بحرارة. لم أتمرد هذه المرة.

لأني لم أرَ أمامي عمامةً، بل إنساناً يلبس الصدق، ويعيش الألم الذي نعرفه.

سألته عن اسمه، فابتسم كمن يعرف السؤال مسبقاً وقال:

“أنا معشوق خزنوي.”

وما زلتُ إلى اليوم، أذكر ذلك اللقاء كأحد أنقى لحظات نوروز.

ليس لأنه كان عيداً، بل لأنه كان المرة الأولى التي صافحتُ فيها الصدق… في هيئة رجل.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خلات عمر

لم يكن الطفل قد فهم بعد معنى الانفصال، ولا يدرك لماذا غابت أمّه فجأة عن البيت الذي كان يمتلئ بحنانها. خمس سنوات فقط، عمر صغير لا يسع حجم الفقد، لكن قلبه كان واسعًا بما يكفي ليحمل حبًّا لا يشبه حبًّا آخر.

بعد سنواتٍ من الظلم والقسوة، وبعد أن ضاقت الأم ذرعًا بتصرفات الأب…

خوشناف سليمان

لم تكن الصحراء في تلك الليلة سوى صفحة صفراء فارغة. تنتظر أن يُكتب عليها موتٌ جديد.
رمل يمتد بلا نهاية. ساكن كجسدٍ لا نبض فيه. و الريح تمر خفيفة كأنها تخشى أن توقظ شيئًا.
في ذلك الفراغ توقفت العربات العسكرية على حافة حفرة واسعة حُفرت قبل ساعات.
الحفرة تشبه فمًا عملاقًا. فمًا ينتظر أن يبتلع آلاف البشر…

تلقى المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، اليوم، بحزن، نبأ رحيل شقيق الزميلة رقية حاجي:

نايف أحمد حاجي
الذي وافته المنية في أحد مشافي هولير/أربيل عن عمر ناهز ٥٩ عامًا.

يتقدم المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا بخالص العزاء للزميلة رقية حاجي، وللفنان حسين حاجي، وللناشط عبدالكريم حاجي، ولعموم عائلة…

صبحي دقوري

في لحظة ثقافية نادرة، يتصدّر الموسيقار الكوردي هلكوت زاهير المشهد الموسيقي العالمي بعدد أعمال معتمدة بلغ 3008 أعمال، رقمٌ يكاد يلامس الأسطورة. غير أنّ أهمية هذا الحدث لا تكمن في الرقم نفسه، بل في ما يكشفه من تحوّل جذري في مكانة الموسيقى الكوردية ودورها في المشهد الفني الدولي.

فهذا الرقم الذي قد يبدو مجرّد إحصاء،…