غريب ملا زلال
شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه الأبيض، ويبدأ بالمغامرة التي دونها لا يمكن أن يكون المرء فنانا.
سعود شيخو وتحول فني مرتكز على التجاور اللوني
بدأ بالخط العربي، وأعجب هو وكل من حوله بما كان يخطه من كلمات وجمل وحِكم وآيات. جرّب كل أنواعها: النسخي، الرقعي، الفارسي، الكوفي… راق له ذلك، وكان شغفه هو الذي يدفعه إلى التوغل، وكان يستمتع كثيراً وهو يفكّ حبكتها، حتى دون أن يدرك أن ذلك رافد للفنون، وقد يجره ليصب في محيطها الأكبر.
وهكذا كان. وجد سعود شيخو (الحسكة 1979) نفسه يحمل قلم الرصاص ويبدأ برسم وجوه من حوله (والده مثلا)، ووجوه من كان يجول في ذاكرة من حوله (قاضي محمد، المهاتما غاندي، مصطفى البرزاني… إلخ)، ووجوه من قرأ لهم (يشار كمال، شيركو بيكهس، جكرخوين، نجيب محفوظ…) أو سمع أغانيهم (أحمد قايا)، أو شاهد لوحاتهم وأحبها (عنايت عطار). ورسم وجوها فولكلورية، وكل ما كان يميل به حبه وعشقه لصيغ جمالية التقطها في صور كانت تفرض ذاتها عليه لإنجازها.
مارس شيخو البورتريه وأتقن رسمه، بل تمايز فيه، وأثار انتباه الآخرين. كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه، لكن روح الفنان فيه دفعته للتمرد على ذلك، وسرعان ما عاد إلى الألوان وقماشه الأبيض، ليبدأ بالمغامرة، ليكون فنانا لا مجرد رسام.
بدأ اللعب مع الألوان وبينها، بالمزج وخلق العلائق. وإن كان الأمر مقلقا في البداية، فإن كل حركة لفرشاته أثارت غرابة مقلقة، وكل توغل لأصابعه في أصقاع اللون أثار أسئلة، قد تكون الإجابة عليها لاحقا عبر ما ترسمه تجربته من كينونة فنية. لا شك أن هذا المسار الذي انعطف إليه/فيه شيخو هو الذي التقط عاطفته ومنعها من التعثر. وبالتالي، يمكن اعتباره اللغة التي كان عليه كفنان أن يتحدث بها، ليكون حضوره مشرقا، ويبدأ بالابتداع في مجال مختلف، محرض لذاكرته ومخيلته ولموهبته، ومحرر له في الوقت ذاته من كل القيود التي كادت أن تبقي تجربته محدودة.
الإمكانات (شكلا وفكرا) التي كانت تصدح في أعماقه لا بد من أن تخرج، وتسير به في طريق ينصهر فيه الروح بالعشق، متطلعا إلى فعل شيء مختلف. ونجح في ذلك، وكان له فضاءاته التي يغرد فيها بأناشيده الملونة، بعاطفة جميلة ومزدهرة بقيت ترافقه من منجز إلى آخر.
نتيجة لذلك، كان من الطبيعي أن يخرج شيخو إلى أفق جديد، ومحاولته لم تذهب هباء، بل جعلته يمضي في اتجاه قادر على تفجير مكنوناته، وقادر أن يغرقه في الفن الحق، عائما في أعماقه، متسلحاً بوفرة معرفية مذهلة جعلته صائدا ماهرا لآلئها.
الجماليات اللونية والتجاور كمرتكز تعبيري
العامل الجديد في هذا التحول الفني لدى سعود شيخو، والمرتكز على التجاور اللوني، قائم على المجاورة أو التداخل كحركة تغييرية في لحظة اندفاعها، مع خلق حالة من التصالح بين مفرداتها، التصالح القائم على التلامس بين مقاعدها المختلفة. فهو يعيد للمقياس الداخلي قيمته، ولا يهمل وظيفته بل يقومها وفق خصوصيته، ويربطها بالوعي المستنير في استجاباته، مشكلاً علاقة مع المتلقي، فاعلا فيه وفي تحولاته الثقافية.
الحركة عنده نهوض وصعود، وهذا يقتضي أن يحرر مجالات التعبير لديه، ويخلق تضافرا بين تساؤلاتها وما تتركه من أثر، بوصفها مفهوما إجرائيا يستعين به شيخو لاستحضار نصه الجمالي بكليته، بتكامله، وبتداخله. وينبغي النظر إليه، أقصد إلى نصه/عمله، بوقفتين على الأقل: الأولى في العلاقة بين مكونات النص ومقولاته (الداخل)، والثانية في العلاقة بين هذا الداخل والمتلقي (الخارج)، تحضيرا لاتخاذ معطى غير سائد، ممهور بلقطات لونية وصفية تطغى عليها إضافات تجعل قراءتها أقل غموضا، وأكثر خصوبة. هذه الإضافات تسهم بكل تأكيد في إثراء تجربته.
شيخو الصياد: الألوان كأمواج
يجد سعود شيخو في الجماليات اللونية وعلائقها فرصة لإظهار وجهة نظره غير التقليدية، على أساس من التفاعل المشترك بينها من جهة، وبينها وبينه من جهة أخرى، مما يرفع منسوب مواجهته لقضايا جمالية ترتبط بعمليات بحثه المستمرة وتوالداتها، وأيضا بعمليات الاستمتاع التي تخرج بحلول خاصة تنتمي برمزيتها إلى خصائص ذوي إحساس شديد بذاتهم.
خصائص حسية تكرس من أجل الإنسان كنمط أولي، باحث وساع إلى الجمال. في مقابل ذلك، فإن حالة مشاهده مفتوحة بفعل ألوان متجاورة أو متداخلة، وعلى هيئة مسطحات تشتمل على شط من روافد ألوان تفرغ حمولتها فيه، ويبدأ هو كصياد ماهر يلعب بالأمواج ويديرها تبعا لأهوائه وراحته، حتى يحظى بتشكيلات لا أسماك فيها، ولا حيتان، بل أعشاب لونية تشذب مناظر تموجاتها التي نسجت على سطوحه بكل تركيباتها.
هو يسمح لها بإحداث تفاوتات استدلالية دقيقة ومحكمة، ما يمنحها حيوية تجعل من عمليتي التلقي والتذوق أمرا جوهريا في الخلق والابتكار، والتي لا يمكن الاستغناء عنها. فهي ترسخ ضمن ظروفها قدرة شيخو على الابتكار والمهارة، مصاحبة سلسلة من الافتراضات التي تنشط الحواس برهافة، وتنتج انفعالات ومثيرات تتفق مع ملكاته، مما يؤدي إلى صحوة عاطفية خاصة بالجمال، لها تفضيلاتها في مجمل حالاته.
وهنا، قد يحق لنا أن نتساءل:
ما الذي يجعل حلباته تحاكي الحياة بهذا العمق؟
وتساهم بتحريض الرؤيا على الاستيقاظ لإشعال الحرائق في الحكايات؟