دور الثقافة ..

محمد إدريس 

 

الثقافة ليست ترفًا ذهنيًا ولا زينة للخطابات الرسمية، بل هي جوهر الوعي الإنساني وروحه العميقة. إنها ليست مجرد تراكم للمعلومات أو حفظٍ للتقاليد، بل هي ذلك النَسغ الذي يتخلل نظرة الإنسان لنفسه وللعالم من حوله.
هي منظومة القيم، والمعارف، والفنون، والعادات، والسلوكيات، وكل ما يصوغ هوية الفرد والمجتمع على حد سواء. والثقافة بهذا المعنى ليست شيئًا مكتسبًا فحسب، بل هي ما نُصبح عليه في النهاية.

إن بناء المجتمعات يبدأ ببناء الإنسان، ولا يُبنى الإنسان إلا بالثقافة، لأنها توسّع مداركه، وتفتّح حسّه النقدي، وتحرّره من السطحية، وتجعله قادرًا على الاختيار، وعلى التفكير في المآلات لا في العواجل.

فحين تغيب الثقافة، يصبح الإنسان هشًا، سهل الانقياد، عديم الرؤية، وغريبًا حتى عن نفسه. بينما المجتمعات التي تراهن على الثقافة، تراهن في الحقيقة على وعي المستقبل.

وقد أثبتت التجربة الإنسانية أن الثقافة ليست فقط عامل بناء روحي، بل أيضًا أداة تنمية ووسيلة نهضة.

فاليابان التي خرجت مدمّرة من الحرب العالمية الثانية، لم تنهض فقط بالتكنولوجيا أو الاقتصاد، بل بثقافتها العميقة في تقديس العمل والانضباط واحترام الجماعة.
وألمانيا لم تتجاوز إرث النازية بالسلاح أو المال، بل بصياغة ثقافة جديدة تقوم على الاعتراف والصدق والسلام.
وسنغافورة، تلك الدولة الصغيرة التي كانت غارقة في الفقر، تحوّلت إلى نموذج عالمي بفضل ثقافة تؤمن بالتعليم والانفتاح وتعدد الأعراق.

أما الإمارات، فمثال معاصر على كيف يمكن للأصالة الثقافية أن تتصالح مع الحداثة، وكيف يمكن للتراث أن يكون سندًا في مشروع حضاري معاصر يفتح نوافذه على العالم.

هكذا تتكرر القاعدة: لا نهضة بلا ثقافة، ولا تقدم بلا وعي. فالثقافة لا تحصّن المجتمعات فقط من التطرّف والتفكك، بل تمنحها مرونة التعامل مع المتغيرات، وتمنعها من الذوبان في العولمة دون ملامح. هي التي تُنتج الإبداع، وتدفع إلى الابتكار، وتُمهّد الطريق لحلول جديدة تتناسب مع الخصوصيات المحلية دون الانفصال عن العالم.

ولأن المستقبل لا يُبنى بالقوة وحدها، بل بالفكرة، فإن الثقافة تظل هي العامل الأعمق تأثيرًا والأطول أمدًا. إن كل حضارة كُتبت لها الحياة كانت، في جوهرها، مشروعًا ثقافيًا قبل أن تكون مشروعًا اقتصاديًا أو عسكريًا. ومن لا يستثمر في ثقافته اليوم، سيدفع ثمن اغترابه غدًا.

إن الثقافة هي أداة الإنسان للدفاع عن إنسانيته، ولتخيل مصيره، ولتوسيع أفق الحلم. وما من شعبٍ اهتم بالثقافة إلا وكان مستعدًا للمستقبل، لا كحالة قادمة فحسب، بل كمشروع قابل للتشكيل.
ولهذا، فإن الثقافة تبقى دائمًا في صُلب المعادلة الحضارية، لا على هامشها. ومن رحمها يولد كل شيء: الإنسان، والهوية، والنهضة، والسلام والحب .

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

الآن… هي هناك، في المطار، في دولة الأردن. لا أعلم إن كان مطار الملكة علياء أم غيره، فما قيمة الأسماء حين تضيع منّا الأوطان والأحبة..؟. لحظات فقط وستكون داخل الطائرة، تحلّق بعيداً عن ترابها، عن الدار التي شهدت خطواتها الأولى، عن كل ركن كنت أزيّنه بابتسامتها الصغيرة.

أنا وحدي الآن، حارس دموعها ومخبأ أسرارها. لم…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة ، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية ، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة ، وَالقِيَمَ العقلانيةَ ،…

إبراهيم اليوسف

الكتابة البقاء

لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال من هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن…

أعلنت دار الخياط – واشنطن عن صدور رواية جديدة للكاتب والباحث السوري مازن عرفة بعنوان «نزوة الاحتمالات والظلال»، لتضاف إلى سلسلة أعماله الأدبية التي تجمع بين العمق الفكري والخيال الجامح، وتفتح أفقاً جديداً في السرد العربي المعاصر.

وتطرح الرواية، التي جاءت في 190 صفحة من القطع الوسط، عالماً غرائبياً، تتقاطع فيه نزوات الطغاة مع رغبات الآلهة،…