الاستدعاء

ماهين شيخاني 

 

كانت الساعة تجرّ أنفاسها الأخيرة قبل أن ينهار الليل على رؤوس النائمين. برد كانون الثاني ينهش الجدران ويصفع النوافذ بظهر الريح، حين اخترق السكون صوت خافت مشروخ:

– يا بني، الأمن بانتظارك.

صوته لم يكن صوت والد… كان أشبه بنعي عاجل، بجنازةٍ تمشي على قدمين.

خرج مسرعًا من غرفته، نصف عارٍ، يرتجف لا من البرد فقط، بل من إحساسٍ كثيف بأن شيئًا ما قد انكسر إلى الأبد.

– خير بابا..؟!

– أي خير..! البس، البس بسرعة… السيارة واقفة عالباب.

 

كانت “البيك آب” تنتصب كذئبٍ جائع، مصابيحها تشق ظلام الحي بوقاحة.

فتح الباب الخلفي رجل أمن بملامح مسلوبة، وأشار بعصبية:

– أنت اركب معنا… وخلّي الوالد يأتي بسيارته.

–  عفواً في شي ..؟. قل لي يا أخي، ما دخل والدي ..؟!.

– ما بعرِف، رئيس المفرزة طالبكم.

 

ركب، والقلب ينبض كطبل حرب، الصدر ضاق حتى كاد يتمزق.

أمام مبنى المفرزة، أنزلوه إلى “المحرس” كجثة مؤقتة.

الدفاية في الزاوية مشتعلة، لكن البرد استوطن روحه. جلس على مقعد صدئ، ووجهه يطل على الشارع العام، مباشرة أمام منزل أستاذه.

فكّر: “يا رب، لا أحد يراني، لا مارّ، لا جار، لا حتى كلب ضال. لو فتح أستاذي نافذته الآن؟ يا إلهي… مخبر، عميل، صرت علكة في أفواه الناس..؟!”

العرق يغلي من جبينه، وكأن جسده كله يستفرغ ذله.

 

المحرس ليس غرفة، بل حفرة تشويه…

مرت الدقائق كالسكاكين.

خرج والده أخيرًا، وقبل أن يدخل هو، همس بصوت مخنوق: لا تخف ..؟.

– لا تتكلم بالكوردي، قال العسكري هي ممنوعة هون… اصمت.

دخل.

في الداخل، كان الضابط يجلس كما يجلس الجلاد في مسرح إعدامات. شاب ثلاثيني، ملازم أول، نظراته مسنونة كالسكاكين، وعيناه تحترف القسوة.

قال دون مقدمات:

– في شكاوى ضدك…

– شكاوى..ضدي.؟.  عن ماذا..؟!.

– الفرن. التوزيع. الأرغفة. في ناس بتقول إنك بتبيع الخبز…

–  ابتسم وقال : أنا..؟! لا أشتغل بالفرن أصلاً..!. أستلم أربع أرغفة باليوم فقط ..!. حتى لا أعرف أين  يضع الطحين ..!. ليتك تدخل بالموضوع مباشرة .

ابتسم الضابط ابتسامة ليست ابتسامة، بل شق في جلده:

– طيب , يبدو انك مستعجل , انظر ما هذا ..؟!..

شغل جهاز التحكم، ظهر فيديو ملتقط بكاميرا خفية. عزاء. أربعينية أحد الأقرباء. خيمتان ممتلئة بالرجال.

– هذا والدك..؟.

– نعم.

– وهذا أنت..؟.

– نعم، كنت معه بالصف الخلفي. انه عزاء  وهل التعزية أيضاً ممنوعة.

– وهدول؟

– بعرف… ما بعرف…

أجبت عمّن أعرفهم  ، لكن من هم في خارج البلد  أنكرت معرفتهم.

 

ثم، بصوته البارد، قال:

– لازم تتعاون معنا.

– كيف يعني..؟.

– ترسل لنا منشورات الحزب، تراقب، تسجّل، ترجع تخبرنا.

– أن أصبح كلبًا ينهش أهله..؟!.

– لا… أنت تخدم وطنك.

– أن أبيع لغتي، وجيراني، وشرفي؟! سمِّه وطنًا آخر غير هذا، فوطني أنا أعرفه… لا يطلب من أبنائه الخيانة.

رفع صوته، ثم خفضه، ثم هدّد، ثم راوغ، ثم استدر عاطفته…

لكن الأستاذ بقي كصخرة على صدر الطغيان.

 

وأخيرًا، عند الباب، قال الضابط بصوت خافت:

– أتمنى ما دار بيننا أن لا يخرج برّة… كأنه ما صار شي.

خرج الشاب.

لكن في داخله شيء انفجر، شيء لن يُخيطه الزمن.

لقد فُتحت نافذة في روحه على الظلمة، ولن تُغلق أبدًا.

 

” بعض الأبواب حين تُطرق في الليل، تفتح على جحيم لا يُغلقه الصباح”

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إدريس سالم

 

«الغابة السوداء»:

بداية لا بدّ أن نوضّح حقيقة مهمّة لكلّ قارئ، لأدب الروائي السوري، مازن عرفة. فمازن عرفة لا يكتب الرواية السياسية، ولا يكتب الرواية الشعبية أو الثورية، هو لا يكتب الرواية النفسية أو الفلسفية، ولا حتى الرواية التاريخية والوطنية، بل يكتب الرواية الإنسانية، هو يكتب رواية الإنسان، يكتب الإنسان؛ وعن الإنسان. يحاول بأسلوبه –…

المهندس باسل قس نصر الله

 

عيدُ ميلادي الثامنِ والستينَ اقتربَ، وقد تقرؤونَ المقالةَ وهو قد حلَّ أو تجاوزَهُ.

بعد أن انتقلَ أبي مع أمي – في بدايةِ ستينياتِ القرنِ الماضي – إلى مدينةِ اللاذقيَّةِ، أصرَّ أن يُبقينا – أنا وأخي سامر – في حلبَ على أساسِ أنَّهُ سيعودُ إليها بعد ستةِ أشهرٍ، ولا يريدُ أن “يشنططَنا” بتغييرِ…

مروة بريم

 

على سبيل التنظيم، والتخلّص من الأوراق المكدسة، وبعض الكراريس الهزيلة القديمة، سحبتُ دفترًا أحمر الغلاف، ربما كان هدية من إحدى الصديقات. أمسكتُه بحذر شديد، فأنا أرتاب جدًا في اللون الأحمر، وأخضعته لفن المسافة، مذ رأيته يرفرف خلف ليونيد بريجنيف، ويبالغ في إظهار حاجبيه الوطفاوين، وعينيه الغامضتين كحصون المغول.

أمسكتُ أوراقه ببن السبابة والإبهام، وأطلقتها بسرعة…

ياسر بادلي

 

في هذه البلاد…
تنكشف الوجوه على حقيقتها،
تُختبر المحبة، وتُفرَز العلاقات،
فتُعرَف معادن الأقرباء، ويُكشَف صدق الأصدقاء.

الغربة هنا لا تعني الرحيل،
بل تعني الصحوة…
أن ترى من كان قلبه معك، ومن كان ظلًا فقط.
•••
أوربا يضيع الإنسان بين ذاكرته وثقافة لا تشبهه،
يحاول أن ينتمي،
لكن الانتماء دون دفء… لا يُثمر روحًا.
وطنٌ بعيد…
ليس جغرافيًا، بل عاطفيًا،
بعيد عن الأم، عن العائلة، عن الحنين.
•••
أوروبا…
قفصٌ…