التوحيد وفكرة الملائكة في العقيدة الإيزيدية

 جيهان نبو

 

تمثل الإيزيدية ديانة توحيدية قديمة ذات رؤية روحية فريدة لفكرة الإله، ووسائط تجلي إرادته. يهدف هذا البحث إلى تحليل تصور التوحيد في العقيدة الإيزيدية، كما ترد في النصوص الدينية الإيزيدية المقدسة، مع التركيز على مفهوم الملائكة السبعة ودورهم الكوني، في ضوء مقارنتها بالمفاهيم التوحيدية في الديانات الإبراهيمية. ويبرز البحث التمايز الفلسفي والروحي في فهم العلاقة بين الخالق والمخلوقات، والوسائط النورانية، ويؤكد على خصوصية التجربة الإيزيدية كمثال حي على تنوع أنماط التوحيد في التاريخ الديني للبشرية.

على الرغم من تصنيف الإيزيدية أحياناً ضمن الديانات غير الإبراهيمية، إلا أن جوهر معتقدها يقوم على الإيمان بإله واحد خالق للكون يعرف في اللغة الدينية باسم “خودى”. تختلف هذه الرؤية التوحيدية عن النظرة الإبراهيمية الصارمة بفعل حضور كائنات نورانية تُقدّس وتُجسد مظاهر من إرادة الذات الإلهية. تهدف هذه الدراسة إلى عرض رؤية التوحيد الإيزيدية استناداً إلى النصوص الدينية الإيزيدية المقدسة، وفهم الخلفية اللاهوتية لفكرة “الملائكة السبعة”، وتحديد الفرق الجوهري بينها وبين نظيراتها في الإسلام، المسيحية، واليهودية.

أولاً: التوحيد الإيزيدي كما تصفه النصوص المقدسة

تصف النصوص الدينية الإيزيدية الإله الأعلى “خودى” بأنه خالق أزلي، لا شكل له ولا مثيل، لا يتدخل مباشرة في تفاصيل العالم اليومي، بل تجلّت إرادته بدايةً بخلق “الدرة”، وهي الجوهر الأصلي الذي وُلد منه الكون. من هذه الدرة تشكل النور الأول، ومنه خلق الله الملائكة السبعة النورانيين، الذين يتولون إدارة شؤون الكون وتسييره.

لا ترى الإيزيدية في الله كائناً بعيداً ومنعزلاً، بل جوهراً كليّاً يتجلّى عبر وسائط نورانية وروحية. وهذا ما يمنح العقيدة طابعاً رمزيًا عميقًا، ويُرسّخ مبدأ التوحيد ضمن رؤية كونية لا مركزية.

ثانياً : الملائكة السبعة كوسائط إلهية

تذكر النصوص الدينية الإيزيدية مجموعة من الملائكة السبعة يُطلق عليهم “هيفت سِرّ”، أي الأسرار السبعة. أبرزهم وأعلاهم مقاماً هو طاووس ملك، الذي يُعد في التراث الإيزيدي أحد أسماء الله الحسنى، وليس مجرد ملك مستقل أو مخلوق مفصول عن الذات الإلهية.

تُفهم هذه الكائنات النورانية على أنها تجليات إلهية، لا تملك إرادة مستقلة، بل تنفّذ إرادة “خودى” الخالصة. ويُخصّص لكل مَلَك وظيفة كونية محددة، كالخلق، والنور، والمعرفة، والزمان. لذا فإن تقديسهم لا يعني عبادتهم، بل يُعبّر عن وعي روحي بكونهم مظهرًا من مظاهر الإرادة الإلهية.

ثالثاً : الإرشاد الإلهي وتجلي الملائكة

وفقاً للنصوص المقدسة، لا تؤمن الإيزيدية بمفهوم “النبوة” بالمفهوم الإبراهيمي، بل تعتمد على تجلّي الملائكة السبعة على الأولياء الصالحين. هؤلاء الأولياء يتلقون التعاليم الروحية من الملائكة بصفتهم قنوات مباشرة لإرادة “خودى”. وبهذا يظهر الإرشاد الإلهي ليس عبر وحي منزل، بل من خلال “الحضور الروحي” للملائكة وتجليهم في الحياة البشرية.

هذا الفهم يُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمقدس، حيث لا توجد وسائط بشرية ثابتة (أنبياء) بل حضور مستمر للمقدّس في العالم من خلال التجلي.

رابعاً: الفرق المفاهيمي بين الإسلام والإيزيدية في فهم الملائكة

يطرح الإسلام تصوراً مختلفاً لطبيعة الملائكة، حيث يُعدّون مخلوقات نورانية خاضعة لأوامر الله، لكن دون أن يُنسب إليهم العصيان، بخلاف إبليس الذي كان من الجن وامتلك الإرادة الحرة. كما جاء في القرآن:

 “كان من الجن ففسق عن أمر ربه” (الكهف: 50).

أما في الإيزيدية، فإن الملائكة السبعة يُعتبرون تجلّيات نورانية غير مخلوقة بالإرادة المنفصلة، ولا يخضعون لاختبار الطاعة أو العصيان. هذا يُعبّر عن تصور غير ثنائي بين الطاعة والمعصية، ويُظهر الملائكة كأجزاء من نور الله لا يُفصل عن ذاته.

خامساً: رفض مفهوم الوثنية في العقيدة الإيزيدية

يؤكد التراث الإيزيدي على الفرق الجوهري بين العبادة والتقديس. ففي الوقت الذي تُعبد فيه الأصنام والآلهة في الديانات الوثنية ككائنات مستقلة، تُقدّس الملائكة في الإيزيدية كقنوات لإرادة الإله الواحد. وينبغي فهم هذا التقديس ضمن بنية رمزية توحيدية عميقة، لا تُعارض فكرة الألوهية المطلقة بل تُكملها.

وتورد النصوص المقدسة أن الإيزيديين هم من علّموا إبراهيم الخليل التوحيد، وأن أحد الملائكة السبعة، وهو ملك شيشمس، هو من أنقذ ابنه من الذبح، في استحضار روحي لتاريخ التوحيد الإنساني.

في الختام :

تُقدّم الإيزيدية، كما تُظهرها نصوصها المقدسة، نموذجًا متمايزاً للتوحيد، يقوم على الاعتقاد بإله واحد أزلي، يتجلى سره عبر ملائكة نورانية ليست مخلوقات مستقلة بل مظاهر لقدرته وسره. هذا النموذج يُثري الفهم المقارن للتوحيد، ويكشف عن عمق التنوّع داخل الأديان.

إن التهم التي تُوجه إلى الإيزيدية بالشرك أو الوثنية تكشف عن قصور في الفهم الديني المقارن، وتُظهر الحاجة إلى إعادة قراءة النصوص الدينية بعيون أكثر انفتاحاً وإنصافاً.

وفي هذا السياق، تبرز إسهامات الشيخ صبحي نابو، رئيس المجلس الديني الإيزيدي، كمرجع معاصر موثوق يقدّم تفسيراً عقلانياً وروحياً أصيلاً للعقيدة الإيزيدية، ويُدافع عن جوهرها التوحيدي في مواجهة إساءات الفهم والتمييز الديني.

 جيهان نبو ، عضو في المجلس الديني الإيزيدي.

 

المراجع

النصوص الدينية الإيزيدية المقدسة (المحفوظة والشفهية).

سورة الكهف، الآية 50.

تعاليم الشيخ صبحي نابو، رئيس المجلس الديني الإيزيدي.

دراسات مقارنة في اللاهوت والأنثروبولوجيا الدينية.

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إدريس سالم

 

«الغابة السوداء»:

بداية لا بدّ أن نوضّح حقيقة مهمّة لكلّ قارئ، لأدب الروائي السوري، مازن عرفة. فمازن عرفة لا يكتب الرواية السياسية، ولا يكتب الرواية الشعبية أو الثورية، هو لا يكتب الرواية النفسية أو الفلسفية، ولا حتى الرواية التاريخية والوطنية، بل يكتب الرواية الإنسانية، هو يكتب رواية الإنسان، يكتب الإنسان؛ وعن الإنسان. يحاول بأسلوبه –…

المهندس باسل قس نصر الله

 

عيدُ ميلادي الثامنِ والستينَ اقتربَ، وقد تقرؤونَ المقالةَ وهو قد حلَّ أو تجاوزَهُ.

بعد أن انتقلَ أبي مع أمي – في بدايةِ ستينياتِ القرنِ الماضي – إلى مدينةِ اللاذقيَّةِ، أصرَّ أن يُبقينا – أنا وأخي سامر – في حلبَ على أساسِ أنَّهُ سيعودُ إليها بعد ستةِ أشهرٍ، ولا يريدُ أن “يشنططَنا” بتغييرِ…

مروة بريم

 

على سبيل التنظيم، والتخلّص من الأوراق المكدسة، وبعض الكراريس الهزيلة القديمة، سحبتُ دفترًا أحمر الغلاف، ربما كان هدية من إحدى الصديقات. أمسكتُه بحذر شديد، فأنا أرتاب جدًا في اللون الأحمر، وأخضعته لفن المسافة، مذ رأيته يرفرف خلف ليونيد بريجنيف، ويبالغ في إظهار حاجبيه الوطفاوين، وعينيه الغامضتين كحصون المغول.

أمسكتُ أوراقه ببن السبابة والإبهام، وأطلقتها بسرعة…

ياسر بادلي

 

في هذه البلاد…
تنكشف الوجوه على حقيقتها،
تُختبر المحبة، وتُفرَز العلاقات،
فتُعرَف معادن الأقرباء، ويُكشَف صدق الأصدقاء.

الغربة هنا لا تعني الرحيل،
بل تعني الصحوة…
أن ترى من كان قلبه معك، ومن كان ظلًا فقط.
•••
أوربا يضيع الإنسان بين ذاكرته وثقافة لا تشبهه،
يحاول أن ينتمي،
لكن الانتماء دون دفء… لا يُثمر روحًا.
وطنٌ بعيد…
ليس جغرافيًا، بل عاطفيًا،
بعيد عن الأم، عن العائلة، عن الحنين.
•••
أوروبا…
قفصٌ…