لوحات دلشاد نايف تستمد بهاءها من المنحى التحليلي السيكولوجي: سريالية الواقع والمتخيّل

غريب ملا زلال

يشكل الفنان الكردي – العراقي دلشاد نايف من البيئة والطبيعة والتاريخ الطويل من عمر الأرض وجذور الإنسان مفرداته التشكيلية، فيرسم المرأة والطبيعة والتاريخ الحضاري لمدينته دهوك بألوان متفجرة ومتدفّقة كسيلان نهرها على الأرض المنبتة للجمال في أبهى مظاهره الطبيعية.

“دهوكا رنكين”، المقولة التي طالما سمعناها من شفان برور الفنان الأبرز لدى الكرد، ومن عامة الناس حين نأتي على ذكر دهوك، فلا يمكن أن تذكر دهوك إلا وتنزل رنكين إلى جانبها، هي صفة باتت مرافقة لها، بل ملاصقة لها، حالها كحال أكثر المدن الكردية كقامشلوكا أفيني وعامودا بافي محمد.

وترسخت هذه المقولة حقيقة حين فكرت في الكتابة عن فنانيها التشكيليين، فوجدت نفسي أمام ظاهرة تنعش الروح والقلب معا، ظاهرة تكشف عبق دهوك وأريجها؛ ففي هذه المدينة حركة تشكيلية لا تنضب، حركة في حالة من الدوران المستديم، حركة تشبه الحلم المستمد من العلاقات الخاصة بين الخصائص الفيزيقية المتاحة بوسائل مختلفة، وبين الخصائص الإدراكية المصحوبة بنظرات فاحصة تكشف الجو المنذر بالخطر أو بالفرح تبعا للأثر المتوقع الذي يتركه العمل في متلقيه، حركة تشكل قوسا وقزحا وتزين فضاء دهوك، بل فضاء كردستان برمته.

نهر فني

“دهوكا رنكين” وعلى نحو تلقائي تتدفق بأنهار عذبة، أنهار تزداد قيمتها كلما شاركت في تحريك انفعالاتنا الإنسانية المتعلقة بالجمال، وكلما عملت على ملاءمة عواطفنا المرتبطة بالطبيعة الداخلية اللازمة لها؛ فوجود أسماء كسيروان شاكر، وستار علي، وحميد شريف، ودلشاد نايف، وسليمان علي، ورشيد علي، وفمان إسماعيل، وشيراز عزيز، وأراز نيرسيسيان، وهبة يونس وهيفي بيل وحدها كافية لأن تكون لدهوك حيويتها وغنائيتها.

فقائمة الأنهار طويلة وجارية بعذوبة جميعها تحمل الحلم الرحب لتلتقي في مصب واحد وتسقي دهوك وحقولها وناسها وتجعل عطرها يغرق كل من يمر بها، وبالتالي تنشر هذا العطر الجميل لا في ربوع كردستان فحسب بل في ربوع كل العراق، أنهار فاعلة بقوة، جميعها تسيل بعذوبة لا يشغلها شاغل إلا ألوانها والأضواء التي تستحم بها.

دلشاد نايف يمسك ريشته ويمنعها من الانزلاق نحو التقليد عبر إدراكه لعالمه الداخلي الذي يدفعه إلى إطلاق العنان لخياله.

أسعدني جدا وجود هذا الكم من الأسماء والنشاط، أسعدني وجود أكثر من مجموعة تشكيلية كجماعة الفن المعاصر، وجماعة الستة، وجماعة الفتيات التشكيليات وغيرها في دهوك، وهي حالة عافية، بل حالة ضرورة لانطلاق حافلة الفن التشكيلي باتجاه البحث والتجديد، باتجاه الهدف المنشود، هي حالة تذكرنا وتعيدنا إلى الزمن المجيد للفن حين كان في حالة غليان لا يهدأ، في حالة ولادات جديدة على الدوام.

سقت كل هذا الكلام لأبدأ بالحديث عن تلك الأنهار نهرا نهرا، وسبق أن كتبت عن بعضها كستار علي، وسيروان شاكر، وحميد شريف، وهنا سنقف عند دلشاد نايف (1978) أحد الأنهار الفنية المهمة والعذبة في دهوك.

كان لأعمال نايف وقع خاص عليّ وأنا أبحر فيها وفي عوالمها، وقع من العيار الجميل، والقريب من عمليات الإدراك غير المباشر، فأعماله لها عمق المقولات المفتوحة بمعانيها المختلفة.

أو لنقل لها عمق من محددات بيئية يدخل فيها العامل الرؤيوي بتأثير من عمليات بصرية في ضوء الإطار الخاص المتكئ على أحكام جمالية بوصفها أحكاما موضوعية إلى حد ما، ومتخيلة إلى حد أكبر؛ فهي تستمدّ بعض مواصفاتها أو معظمها من المنحى التحليلي السيكولوجي بالإشارة إلى بعض العلاقات الخاصة والمشتركة بينها وبين السريالي، فهو يعايش بينهما في أُطر غير مألوفة، ويعود بهما إلى الشرط البدائي للجمال وإلى ملاعب الطفولة وحريتها الخاصة والتي يمجدها نايف كثيرا.

وكأنه يلخص ويعيد ما كتبه الفنان التشكيلي السوري الراحل عمر حمدي المعروف في العالم باسم “مالفا” في إحدى رسائله إلى صديقه أديب مخزوم الفنان والناقد المعروف:

“كلما كبرت في المعاصرة، أدركت أن الأكثر بدائية هو الأكثر حداثة في الفن، كونها المصدر الأهم لتجدد الوعي مع التدفق التلقائي للأحاسيس الهاربة من العزلة التي يلجأ إليها الفنان كثيرا كشكل من أشكال التوازن مع المحيط ومفرداته من جهة، ومع أشكال التفاعل الحميم مع الذات من جهة ثانية”.

هذا ما يجعل الاتجاه الخاص الذي يمشي إليه نايف غير مقنع، بل يأخذ بتغييراته في الشكل الفني على أساس التواصل مع اللامرئي، حيث سخونة اللون وما يمكن أن تكون قيمتها المعطاءة البعيدة عن الاعتياد والقريبة من هيولى (الأصل) ذات البؤرة الانفجارية غير المنفصلة عن الذي يحصل بين المتلقي والعمل الفني حين يلتقيان، فإما أن يطرد أحدهما الآخر – ومن هذا الكثير – أو تقوم في النهاية على أساس من التواصل في مستواه الجمالي، وهذا قليل، لكن فاعل ومثمر.

وكتخفيف من مسألة السائد، يبذل نايف جهدا مضاعفا وهو يطارد ما ينبغي أن يكتشف له، بزمن مغاير وجديد، فالشكل الخارجي لا يمكن له أن يسقطه من محاولاته التجديدية، وإن كانت هناك إزاحات صغيرة تتجلى في ابتعاده عن الإيقاع الصاخب الذي قد يوقع مشروعه في شفاهية الإسقاطات التي تشبه قفزة في الهواء.

ويدرك نايف ذلك جيدا، وهذا ما يدفعه إلى زيادة الجرعة في إيقاعاته الداخلية بموسيقاها التي يعتمد عليها كثيرا، وهو ما يجعله يمسك ريشته ويمنعها من الانزلاق نحو التقليد، فهذا الإدراك لعالمه الداخلي يحرر ذهنه وذهن متلقيه معا اعتمادا على ذلك الارتباط الذي يشد أحدهما للآخر حسب احتياج كل منهما إلى الآخر، فيقتربان من حدائق بعضهما البعض وكلاهما يحمل العبق الذي سيفرغه في حديقة الآخر دون أية فرضيات خاطئة.

عوالم روحانية

كل الاحتمالات تذهب إلى الجانب الحدسي الذي يجر أشكال نايف دون أية رضوخ لنزوات انفعالية أو بحثية، فهو يمشي نحو إنشاء القيمة الذاتية لأعماله بوصفها حقولا جمالية/ معرفية لا تفتقر إلى القدرة على الوصول إلى معلومات جديدة بمنظورات جديدة.

فكل شيء له أثر على أي شيء، وأي شيء له أثر على كل شيء، فهذه الديناميكية ضمن عوالمه المتخيلة تجعل من ملامح تجربته آسرة بالموجات الأثيرية التي تمنح اللون قيمة روحية بها يصوغ أحاسيسه وما تحمله من حركات تصاعدية متحالفة مع إيقاعاته التعبيرية، متمسكة بالأفقين القريب والبعيد على نحو يبعده عن الإرغام على تسعير اللون في غير مكانه.

كما يبعده عن الوقوع في مسالك تحتشد بنزق لوني يلتف على نفسه، فهو الجامح في حركته، القلق على مدارات عملية الخلق، الزاهد في ألوانه، فشطآن الخيال سرعان ما تلد في لوحاته، بدءا من الحواف التي منها ينهل تشكيلاته ويذهب بها إلى أفق اللوحة ليعلقها هناك، مجبولة بعلاماته الساعية إلى التجاوز المستمر لكل محن الحدوث، وصولا إلى مشاهداته الطموحة التي تشي باندفاعات روحانية تعتريها طاقة موحية بالقدرة على مضاهاة عناصر الطبيعة، والإيغال بعمق في كل ما يمكن أن يحتدم من ملامح اللوحة حتى تبصر، أو حتى تتشظى بمرارة الاشتياق في تخطيطاته المختلفة.

هناك عدة مؤثرات تحضر في تجربة نايف لتجعل التداعيات تأخذ ألوانها وأشكالها؛ فالموسيقى الداخلية لديه ما هي إلا إيقاعات نحو التحريض والتأمل، وما اللمسات اللونية المختلفة لديه إلا تراكمات قد تتحول إلى رمز، أو إلى خصوبة فيها يستيقظ الوقت لتفصيل خيوط معينة بها ينفّذ الفنان عمله ضمن متغيرات هي وليدة لذاكرته، وبالتالي وليدة لعالم متخيل تماما هو أقرب إلى الأسطورة منها إلى الواقع.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إدريس سالم

 

«الغابة السوداء»:

بداية لا بدّ أن نوضّح حقيقة مهمّة لكلّ قارئ، لأدب الروائي السوري، مازن عرفة. فمازن عرفة لا يكتب الرواية السياسية، ولا يكتب الرواية الشعبية أو الثورية، هو لا يكتب الرواية النفسية أو الفلسفية، ولا حتى الرواية التاريخية والوطنية، بل يكتب الرواية الإنسانية، هو يكتب رواية الإنسان، يكتب الإنسان؛ وعن الإنسان. يحاول بأسلوبه –…

المهندس باسل قس نصر الله

 

عيدُ ميلادي الثامنِ والستينَ اقتربَ، وقد تقرؤونَ المقالةَ وهو قد حلَّ أو تجاوزَهُ.

بعد أن انتقلَ أبي مع أمي – في بدايةِ ستينياتِ القرنِ الماضي – إلى مدينةِ اللاذقيَّةِ، أصرَّ أن يُبقينا – أنا وأخي سامر – في حلبَ على أساسِ أنَّهُ سيعودُ إليها بعد ستةِ أشهرٍ، ولا يريدُ أن “يشنططَنا” بتغييرِ…

مروة بريم

 

على سبيل التنظيم، والتخلّص من الأوراق المكدسة، وبعض الكراريس الهزيلة القديمة، سحبتُ دفترًا أحمر الغلاف، ربما كان هدية من إحدى الصديقات. أمسكتُه بحذر شديد، فأنا أرتاب جدًا في اللون الأحمر، وأخضعته لفن المسافة، مذ رأيته يرفرف خلف ليونيد بريجنيف، ويبالغ في إظهار حاجبيه الوطفاوين، وعينيه الغامضتين كحصون المغول.

أمسكتُ أوراقه ببن السبابة والإبهام، وأطلقتها بسرعة…

ياسر بادلي

 

في هذه البلاد…
تنكشف الوجوه على حقيقتها،
تُختبر المحبة، وتُفرَز العلاقات،
فتُعرَف معادن الأقرباء، ويُكشَف صدق الأصدقاء.

الغربة هنا لا تعني الرحيل،
بل تعني الصحوة…
أن ترى من كان قلبه معك، ومن كان ظلًا فقط.
•••
أوربا يضيع الإنسان بين ذاكرته وثقافة لا تشبهه،
يحاول أن ينتمي،
لكن الانتماء دون دفء… لا يُثمر روحًا.
وطنٌ بعيد…
ليس جغرافيًا، بل عاطفيًا،
بعيد عن الأم، عن العائلة، عن الحنين.
•••
أوروبا…
قفصٌ…