إدريس سالم
«الغابة السوداء»:
بداية لا بدّ أن نوضّح حقيقة مهمّة لكلّ قارئ، لأدب الروائي السوري، مازن عرفة. فمازن عرفة لا يكتب الرواية السياسية، ولا يكتب الرواية الشعبية أو الثورية، هو لا يكتب الرواية النفسية أو الفلسفية، ولا حتى الرواية التاريخية والوطنية، بل يكتب الرواية الإنسانية، هو يكتب رواية الإنسان، يكتب الإنسان؛ وعن الإنسان. يحاول بأسلوبه – ما بعد الحداثي – أو الأسلوب الكابوسي أن يفكّك الإنسان ويجمعه من جديد، ليعيد تشكيله مرّة أخرى، وبنائه على أسس أكثر إنسانية، وأكثر قرباً من الإنسان، وربماً هناك قرّاء ونقّاد أثناء قراءة روايتَي «الغابة السوداء» و«داريا الحكاية»، أو حتى الاقتراب من عالم مازن عرفة سيقولون: نريد أدباً جديداً؛ لا يتطرّق إلى الثورة السورية أو الربيع العربي. لكن الحقيقة هي تماماً عكس ما يقولون أو يعتقدون.
الغابة السوداء بوصفها كابوساً معكوساً:
تدور أحداث وأفكار رواية «الغابة السوداء»، الصادرة عام 2023م عن منشورات رامينا في لندن، في منطقة الغابة السوداء بألمانيا، حيث يعيش اللاجئ أو الإنسان السوري المعاصر، المهجّر والمكسور والمتصدّع، وسط صدمة نفسية إثر الحرب والمنفى الإجباري، حيث يفقد ذاكرته ويغرق في عالم سُريالي يعكس صدمته واغترابه، فيستيقظ في إحدى المنتجعات العلاجية الألمانية بمدينة فورتسهايم، المدينة الفارغة من الناس والنشاط الإنساني، ليواجه هلوسات كابوسية سُريالية، تمتزج بين الجنون العَرَفي الجميل والواقع الكافكاوي المثير، بل أرى أن كوابيسه وسحرها الواعي واللاواعي هنا في «الغابة السوداء»، وأيضاً في «داريا الحكاية»، قد تخطّت كوابيس فرانز كافكا.
في «الغابة السوداء» يكون الإنسان السوري بصفته لاجئاً تائهاً في مدن أوروبا، أمام خيارات معقّدة وقرارات مصيرية، حتى يقاوم صعوبة الحياة الجديدة، ويتأقلم ويعايش صدمة الحضارة الثقافية والمعرفية والعمرانية في أوروبا، فيجد نفسه متوحّداً في مجتمع بارد غريب، يشبه مجتمعات مواقع التواصل الاجتماعي، لا دفء ولا حميمية العيش والتفاعل، كما في مجتمعات الدول الشرقية، التي دمّرناها بجهلنا وجنوننا.
يمتلأ البطل بشخصيات شبحية مشروخة، هي نتاج هلوسات كابوسية مرعبة تخرج من رأسه، نسخ متكرّرة، مشوّشة غامضة، محاصرة باللازمان واللامكان. يخرج البطل من منتجعه العلاجي، وهو في حالة صحو مشوّشة عابرة، فيحتكّ مع المجتمع الألماني البارد والبيروقراطي في كافة مظاهر حياته، وخاصة من الناحية الاجتماعية، وكأنه يقول: «لا فرق بين الإنسان الواعي المتحضّر، والإنسان الديكتاتور المتوحّش».
الغابة السوداء كأداة شفاء نفسي:
يكتب مازن عرفة، جامعاً بين الواقعية النفسية والرمزية العميقة؛ ليعكس الظلام داخل النفس الإنسانية، وما تقاسيها من صدمات وهلوسات، يفرّغ الألم ويشارك تجربة الغربة، فيقدّم عملية شفاء عبر اللغة والأدب، ليؤكّد لنا أن الأدب يمكن أن يشفي الإنسان إن استمع إلى ما يعانيه، واستمتع بذلك في قالب أدبي صادق، فيقول: «لا أعرف ما مدى الواقعي، وكم هي درجة التوهّمات فيما يحدث حولي. الأشخاص يتحرّكون في أغشية هلامية».
يتناول الكاتب الكثير مما يعتري الإنسان السوري، عبر سرد نفسي درامي كثيف، وأهمها الصدمة النفسية في الحرب، قسوة المنفى، صراع الهوية الجديدة وتحدّي الانعزالية المجتمعية، إثبات الإنسان على أنه إنسان وليس وحشاً أو مسخاً أو ديكتاتوراً، البحث عن الخلاص أمام الصراع والخوف من فقدان الذاكرة والهوية. فالغابة بسوادها هو النفس الإنسانية المظلمة والمشتّتة، اللاوعي التائه، الخوف كمرض قاتل، وتلك المدينة الأوروبية التي استيقظ فيها إنما تمثّل فراغ الإنسان النفسي بعد الحرب والفقد والغربة.
في الغابة السوداء جميع أنواع الروايات في رواية واحدة:
إن أجمل معروف وأعمق عطاء يقدّمه مازن عرفة للرواية العربية والسورية والأدب العربي برمّته، هو أنه يكتب جميع أنواع الروايات في رواية واحدة، لدرجة أن الحيرة والعقدة قد تصيبا القارئ ومرّات كثيرة الناقد والمحلّل الأدبي، الذي لا يعلم من أيّ صفحة أو سطر يشهر أدواته النقدية، ليؤكّد عرفة أن الرواية التقليدية انتهت، وانتهى معها دورها في التأثير المتبادل؛ لأن الإنسان الراهن بات إنساناً هشّاً متسلّطاً ممزّقاً، تعتريه الضغوط والكوابيس والهلوسات وأحلام اليقظة المخيفة، وكأنه يعيش في واقعية سحرية يومية، فالعالم الذي يعيش فيه هو عالم الكوابيس المريعة والاستيهامات المجنونة.
الغابة السوداء بوصفها سؤالاً مفتوحاً:
يسلّط الروائي السوري كلّ أدواته وتقنياته نحو الإنسان، فالغابة ليست عن مدينة فارغة من ساكنيها، أو شخصيات هلامية كابوسية، بل عن ذات الإنسان المفرّغ من ذاته، وما مدينة فورتسهايم إلا الفراغ الوجودي السوري، وانهيار القيم الأخلاقية والتربوية بعد سقوط هوية الإنسان ووطنه، فالرواية تسأل أسئلة نواجه بها أنفسنا كلّ يوم: مَن أنا؟ وكيف أكون إن لم أعرف مَن أكون؟ وهل يمكن للسوري الجديد أن يصنع هوية جديدة بلا ذاكرة وقيم، سواء في الداخل أو الخارج؟ ربما هي هوية قائمة على غياب دفء الذاكرة، والمشاعر الجمعية، لكن في المقابل هناك حضور المدينة الباردة والخالية من الإنس والحسّ، مدينة تكنولوجية انعزالية، فلماذا ننسج حياتنا من ألم الحاضر والماضي المنصرم؟
إن فصل «الهلوسات» هو أفضل ما يكتبه مازن عرفة عن الإنسان العبثي والمتصدّع والضائع في استيهاماته وهلوساته وكوابيسه، لدرجة أن القارئ لكلّ أعماله الروائية سيكتشف أنه لن يستطيع أن يكتب بهذا العمق الإنساني وخرابه ودماره ووحدته وغربته، هو يكتب حقيقة الإنسان الشرقي وكأنه يقول: «هذا هو الإنسان الشرقي، هكذا صار بعد الحروب، هكذا أنتجته الحروب، وهكذا يريده صنّاع الحروب».
يرى مؤلّف رائعة «وصايا الغبار» أن الإنسان السوري اللاجئ والمهجّر، بفعل الحرب والاستبداد والفقر، نحو الدول الأوروبية، إنما يعيش في مدن لا تشبه مدنه، في بلدات غريبة عنه، رغم وجود الأمان والاستقرار والكرامة ومساحات الحرّية والمساواة، إنسان يعيش الهلاوس النهارية والعزلة الليلية، وكأنه خرج من صدمة نفسية ليدخل إلى صدمة أكثر خطورة وصعوبة، يملك بيتاً ولكن حياته كلّها مرهونة بالعمل، يعيش في مكان مكتظّ بالبشر ولكن لا أحد يرميه بسلام أو ينطقه بنقاش عابر، لا وثائق تثبت أنه موجود كدَمٍ وروح، ولا مرايا توصله إلى وجهه وحضوره، وكأن الوجود هو اللاوجود، واللاوجود هو الواقع الجديد بالنسبة له، فتظهر له أشباح هلامية، هي هلوسات كابوسية كلاسيكية، ناتجة عن تداخل ذاكرته بذاكرة اللاوعي المدمّر والممزّق.
الغابة السوداء هي تحويل الذاكرة إلى ساحة محاكمة روحية:
في الرواية يؤكّد عرفة أن تلك الكوابيس ستزور ذاك الإنسان في الأماكن الطبيعية (حديقة، غابة، قرية، جبل، طريق)، ستزوره في الشقّة والسيّارة والقطار والأمسيات والندوات والمناسبات والحفلات، وحتى في الفراش، وعلى نسخ من كلّ شخص عرفه في حياته. وهذه الكوابيس إن كانت داخلية فهي تعكس الظلام الداخلي للإنسان، باضطراباته وصدماته وقدرة الحرب على اقتلاع ذاته من جذورها، وإن كانت كوابيس خارجية، فستحاول أن تكسّر الواقع، وتنتقل بين مساحات الطبيعة المختلفة، لتعكس تصدّع الذات من عوالم متزيّفة بل متنافرة، فينتقل من الهلع إلى التفكير؛ لأن الكابوس الأخير الذي عاشه في وطنه سوريا لا يكتفي بالتخويف والترهيب فقط، بل يطرح اتّهامات سياسية وإنسانية: مَن السبب فيما وصل إليه الإنسان السوري؟ مَن الذي أباد وطنه: السلطة الحاكمة الاستبدادية، أم المعارضة المفكّكة والضعيفة، أو العالم، أو الحرب نفسها؟
إن الكوابيس هنا في «الغابة السوداء»، هي تجسيد سُريالي حقيقي، وصادم لوجه الحرب النفسية، انعكاس حقيقي لما اختفى في داخله بصفته ضحية عانتِ الحرب وصدماتها، ليحوّلها ومستعيناً بواقعية سحرية مجنونة وكوميديا سوداء إلى تحقيق طموح ذاتي وسرد اتّهامي حول الهروب من الواقع المُرّ، الهروب من الصمت وأزمة الهوية. كوابيس تتحرّش بذاكرة مواطنيها.
الغابة السوداء تجربة سردية متصدّعة عن قصد:
ما بين فصلي «الصور» و«المتاهة» وحتى نهاية الرواية يبدأ الكاتب بنقض الاتّهام بأن تصدّعاً ما موجود في بنية الرواية، لكنه يؤكّد بأنه ليس عيباً بنيوياً، بقدر ما هو انعكاس واقعي لحالة وجودية يعيشها اللاجئ والمهجّر السوري، وبها تتحوّل الفوضى من خلل فنّي تقني إلى خيار أكثر وعياً وواقعية، يعكس الحالة المتفرّقة للاجئين والمهجّرين، وسط فقدان الجغرافية والهوية، اللتان تفرضان تصدّعاً سردياً موازياً. فالمنفى هو وجود داخلي، أو كما يقولها الكاتب: «كلّ منّا يعيش المنفى في داخله، سواء كان فيها أو خارجها»، وهنا يكون المنفى كحالة نفسية داخلية، وليس واقعاً جغرافياً بحتاً، وهذا الطرح يظهر كيف أن اللجوء والتهجير والاقتلاع لا تُقاس بالمكان فقط، بل بالروح والذاكرة والانتماء، فالمنفى هو منفى الذات في داخلها، قبل أن يكون المنفى بوصفه جغرافية طبيعية.
يركّز الكاتب على تجربة الهروب من الموت والحرب إلى الاغتراب والعزلة النفسية، في الانتقال من كوابيس وهلوسات المذبحة السورية إلى كوابيس الروتين اليومي في البلاد الغريبة، فهناك شعور بعدمية الأمان حتى بعد النجاة؛ لأن الماضي الثقيل لا يتوقّف عن ملاحقة الحاضر الأليم، وهو أمر يؤدّي إلى تمزّق الهوية وفقدان توازنها الوجودي. فالحكاية السورية ليست فقط السرد أو الرواية، بل هي حكاية جوهر الهوية والانتماء إلى البيوت، الشوارع، المناسبات، الذكريات، اللغة، والأماكن الحميمية. ومع تصدّعها وتصدّع أُسسها ستنقطع وتتلاشى، لكن الجيل الجديد سيصنع حكايات جديدة بعيدة عن جذورهم وتاريخهم، مما يعني تهديداً خطيراً وإضافياً بانقطاع السرد الجمعي للأجيال القادمة.
«داريا الحكاية»:
ومن جانب آخر، وأكثر اتّصالاً بما سبق، بل وأكثر عمقاً، نتحدّث عن «داريا الحكاية»، الصادرة عام 2023م، عن دار ميسلون للثقافة والترجمة والنشر. رواية تتدرّج من الواقعية الشعرية إلى الفانتازيا الرمزية، ثم إلى الكابوسية السُّريالية في المنفى. هي أكثر من شهادة حيّة وحقيقية، إذ يفتتح مازن عرفة روايته بوصف شاعري وطفولي لمدينة داريا وعالمها الجميل ما قبل المأساة، فهو يشبّه الأمّ بكرم عنب، والأب بحقل قمح، في تصوير طبيعي حنون، يعبّر عن الحميمية والارتباط التلاحمي بالأرض والطفولة والذاكرة. هذا التمهيد لا يشي بالكوارث القادمة، لكنه يعمل على توظيف خاص، لخلق تناقض سردي صادم، حين تنقلب المدينة لاحقاً إلى عنف وفَقْد وهذيان وكوابيس لا تنتهي. فتنتقل الرواية تدريجياً من التوثيق الواقعي والمشهد الحيّ لعادات الساكنين ومكانهم إلى الفانتازيا ثم الهذيان، في محاولة منه لمحاكاة تأثير العنف المفرط على الوعي واللغة، وكأنه تصاعد موازٍ لانزلاق سوريا من عالم الحياة اليومية الجميلة إلى جحيم الحرب ودمار جمال المكان وذاكرة الإنسان.
ومن الرواية نقرأ: “روح عاشقة أنا، انبثقت من جبال مهبط المساءات، ذات فجر حياة. أتجدّد مع كلّ ربيع، مع تبرعم عناقيد العنب، أنا حكاية داريا، تعيش مع كلّ انتفاضة حرّية، رابطة الدم مع ذاكرة الأرض”.
داريا الحكاية من الاحتجاج السلمي إلى رماد المجزرة:
في فصل «داريا الثورة» تنتقل الرواية من الحنين الطفولي إلى التحوّل الجذري، الذي شهدته المدينة مع اندلاع الثورة السورية، حيث لحظة انفجار الوعي الجمعي، حين خرج شباب داريا إلى الشوارع بشكل سلمي وحضاري، بحثاً عن الكرامة والحرّية والحقوق العامة، حاملين زهورهم في مواجهة البنادق والدبّابات، وكأنه يحيي شهيد داريا غياث مطر. يوثّق الكاتب صعود الحلم الثوري، سرعان ما ينهار تحت وطأة العسكرة وآلة القمع الوحشي، والاعتقالات التعسّفية، والتصفية الجسدية، والحصار الاجتماعي والاقتصادي، لتتحوّل داريا من مدينة هادئة متصالحة مع الإنسان والطبيعة والحيوان، إلى مدينة الأشباح والكوابيس، وساحة للصراع والدمار.
يقدّم هذا الفصل الثورة كمفصل وجودي فانتازي، لا كحالة سياسية عسكرية عصفت بالشعب والطبيعة، إذ تغيّر فيه شكل العلاقات والأماكن والقيم، وحتى مفردات اللغة اليومية نفسها. هذا الحضور الجديد غيّر داريا إلى الأبد، داريا الشجاعة والخراب، النور والظلام، وداريا البطولة والمأساة، لتصل إلى ذروتها المأساوية، فتمرّ بأفظع اللحظات الدموية في تاريخها، وارتكاب آلة القمع العسكرية لمجزرة مروّعة بحقّ المدنيين العزّل.
في داريا المجزرة تُروى المشاهد والأحداث بلغة مشبّعة بالذهول والصدمة، لتتحوّل فيها السردية من توثيق الواقع إلى هذيان جماعي يشبه الكابوس الحقيقي.
يعرض الكاتب المجزرة لا كحدث عابر، بل كجُرح وجودي غيّر ملامح المدينة والحياة الذهنية للناس إلى الأبد، وكيف أن شعور الخذلان الكامل من العالم، من المجتمع الدولي، وحتى من اللغة التي تصبح قاصرة عن وصف الفظائع بات ثابتاً ومطلقاً في حياة الإنسان السوري؛ لأنه مع تكرار مشاهد الموت والقتل والقصف والدمار يفقد المكان معناه وقيمته ودوره، وتبدأ الذاكرة الجماعية بالتآكل والانقراض، وتصاب الذهنية العامة بالإعاقة، لتصبح داريا المدينة الحيّة الجميلة رمزاً للموت المنظّم، وشهادة حقيقية على لحظة تم فيها سحق الحكاية السورية، بمدنها وساكنيها.
داريا الحكاية فانتازيا الألم والنجاة:
عند قراءة فصل «هلوسة» سيقرأ القارئ فصلاً مختلفاً ومميّزاً، فصلاً وكأن الروائي يُخرج لنا ما يعتري روحه من هلوسات وكوابيس وعوالم فكرية وفلسفية، وكأن داخله يخرج إلى خارجه، وخارجه يتبخّر ويزول. فصل يمثّل انكساراً داخلياً عميقاً بعد الصدمة الكبرى، حيث يغوص في الاضطرابات النفسية الناتجة عن العنف والحصار والمجزرة. يفكّك اللغة ويجمعها إلى شذرات وصور ولوحات كابوسية فانتازية متداخلة، هي انعكاس لحالة الذهن المتصدّع لدى اللاجئ والمهجّر الناجي، يتحوّل الواقع إلى عالم بيني، لا هو حلم ولا هو يقظة، بل مساحة مشبّعة بالكوابيس والهلوسات البصرية والسمعية والروحية، تظهر له أصوات الموتى، تتحرّك أمامه الجثث، تمشي وتتقلّب، يرى ظلال البيوت المدمّرة ناهضة، تتلاشى الحدود بين الزمان والمكان، تتصادم صور الطفولة بالألم والرعب، وكأن الشخصيات المحاصرة في المدينة محاصرة في عقله أيضاً، محاولاً ترتيب الفوضى، التي لم تعدِ الحياة قادرة على تفسيرها، وهذا يدلّ على مدى تفاعل الهلوسات وظهورها كآلية دفاعية نفسية ضدّ ما لا يمكن احتماله أو تقبّله.
إن المجزرة لا تنتهي بخروج الجثث من وإلى الشوارع، بل تبدأ داخل اللاجئين والمهجّرين الناجين، وتعيد تشكيل ذواتهم المبعثرة، وسردهم، ومنحهم حكاية جديدة، من خلال الانتقال من أهوال الداخل إلى عذابات الخارج للإنسان، فاللاجئ يعيش في المنفى لا كخلاص من الحرب والألم، بل كامتداد لهما، لكن بشكل آخر، أكثر كابوسيةً وهلوسةً، لأن المنفى ليس بحالته الجغرافية بل المنفى هو المنفى النفسي والوجودي، حيث لا تنتهي الكوابيس بخروج الجسد من الوطن، بل تبدأ في الروح والذاكرة.
الذاكرة المنزوعة في داريا الحكاية وجحيم منفاها:
أما «كوابيس المنفى» التي أنهاها الكاتب روايته بها، فهي تمثّل امتداداً نفسياً عميقاً لتجربة اللجوء، إذ يغوص في أعماق المنفى وأثرها على الذات والذاكرة والحياة الجديدة، لا يتناول المنفى كمكان بديل فحسب، بل كحالة نفسية وجودية ثقيلة، محمّلة بالألم والحنين والذنب، والانفصال عن التاريخ والجذور والحكاية الأصيلة، فيُصوّر اللاجئ السوري المنتشر في أوروبا على أنه يعيش يومياً كابوسين متعاقبين غير منفصلين، الأول الكوابيس الليلية، التي تُعيد في أذهانه مشاهد الحرب والمجازر، والثاني الكوابيس النهارية، المتمثّلة في الوحدة والعزلة والغربة، وتصدّع الحالة الاجتماعية الحميمية مع الزمان والمكان واللغة، والنتيجة المنفى يقتل الذاكرة ببطء، والحكايات الجديدة التي سيصنعها الجيل الجديد ستكون حكايات منزوعة الجذور.
في الختام، الرواية لدى الكاتب والروائي السوري المقيم في ألمانيا، مازن عرفة، ليست إلا حكايته، حكايتنا، الحكاية السورية، الحكاية الكوردية والدرزية والعلوية والآشورية والأرمنية، حكاية مذابحها وهلوساتها وحروبها. الرواية لديه عبارة عن مشروع كتابي بدأه في روايته الأولى «وصايا الغبار» عام 2011م، وينطلق من تربة الحياة اليومية السورية، باعتبارها مادّة وثائقية حقيقية، لكنها تتحوّل في المعالجة الفنّية إلى عمل تخييلي وواقعي وسحري وفانتازي، يتجاوز الشكل التقليدي للرواية.
ومن خلال اعتماد ضمير المتكلّم «أنا»، يتحوّل السرد فيه إلى اعترافات داخلية، ليست ذاتية بقدر ما هي جماعية، تعكس جراحاً جمعية، ومآسي مأهولة بالكوابيس والهلوسات وأحلام اليقظة، والنتيجة ليست حكاية بقدر ما هي صيرورة روائية متصدّعة، تنبض بتوتّرات الحياة اليومية في زمن الكارثة، فتتداخل فيها السخرية مع التراجيديا، والهلوسة مع الواقعية السحرية، فتكون الكوابيس في مشروعه عملاً إنقاذياً لروح الإنسان.
«الأنا» في رواياته ليست بطلاً تقليدياً، بل بطلاً بسيطاً معذّباً، كينونة متصدّعة، تتكاثر داخل كلّ نصّ إلى شخصيات متعدّدة ومتقلّبة، في بُنى تحاكي انكسار الذات السورية وذاكرتها، تحت وطأة العنف المزدوج: عنف السلطة السياسية وعنف الخطاب الديني.
يمكن القول أخيراً، إن روايتي «الغابة السوداء» و«داريا الحكاية» ليستا مجرّد سرد لحكايات اللاجئين والمهجّرين، أو تاريخاً لأحداث سياسية واجتماعية، أو توثيقاً للحرب، بل هما مشروع أدبي وفلسفي متكامل، يحفر في جوهر الإنسان السوري المعاصر والمعذّب، ويكشف عن التحوّلات النفسية والروحية والوجودية، التي لحقت به جرّاء الاقتلاع والتصدّع والحرب والمنفى. في «الغابة السوداء»، تتحوّل الغابة إلى استعارة للذات السورية المهمّشة والمتصدّعة والغارقة في الضياع، أما في «داريا الحكاية» فتتحوّل المدينة إلى رمز للخسارة الكبرى التي لم تنتهِ بعد. روايتان لم تُكتبا عن الحرب، بل كُتِبتا الحرب كما تُعاش في الروح.