غريب ملا زلال
حكاية الإنسان غاية الفنان ..
كل تجربة في الفن التشكيلي الحديث تحاول أن تجعل من نفسها جسرا بين الفنان والمتلقي يصعد بهما معا إلى مناطق جمالية وفكرية مختلفة تتجاوز لحظة الانفعال الآني إلى التقبل الواعي والتفكير بالعمل، لا لكونه عملية فكرية باردة وإنما ككتلة من المشاعر التي تقترح نفسها كأفكار، وهو ما نراه عند الفنان الكردي سعيد إسماعيل.
يبدو أن الفنان التشكيلي الكردي سعيد إسماعيل المولود في كركوك عام 1972 والمتخرج من معهد الفنون الجميلة في السليمانية عام 1994 هو أحد أهم الترنيمات التي تنبعث من سيمفونية التشكيل في كردستان العراق، ولوحده يكاد يشكل حزمة من النغمات المضيئة لهذه السيمفونية بإيقاعات خافتة حيناً، وحيناً صاخبة، تبعاً لتدفق حواسه بأصواتها، بروائحها، بطعمها وبملمسها.
وهذا يؤكد في الوقت ذاته على فيضان الخيال لديه من جهة، وعلى تنوع استخداماته اللونية من جهة ثانية، وبالتالي على اكتنازه لطاقات اللون الهائلة وغير المحدودة، بدلالاته وإشاراته، برمزيته واحتمالات استخدامه، فاللون عنده نشط، دافئ، يمتص العتمة على امتداد نطاقاته، سواء أكانت تلك النطاقات صغيرة أو واسعة مفتوحة على الآفاق.
مربط لغة الفنان التكثيف من جانب والاختصار والتقنين من جانب آخر وهذه هي السمات الأبرز لتأسيساته العديدة
الخصائص الجمالية :
ما يميز تجربة سعيد إسماعيل استخدامه للألوان، فاللون عنده إيجابي، غير عدواني، كثير الثراء حتى في أشد لحظات ولاداته عسراً، فهذه السخونة، وهذه الحيوية تمنح لونه كمّاً عالياً من التوق إلى عالم بصري يشحنه الفنان بأحاسيسه وتنبيهاته، وفيه يدون أساسيات الحياة بدمها الطازج، وكأنه يذيب الجليد من حدائقها، أو كأنه يدمر قافلة جدران كانت تهيمن على طرقاتها، فعمليات الاستبصار هنا هي نوع من عمليات الفهم المصحوبة بالدهشة والمفاجأة والدفء، دفء يبدو في تناغم هارموني مع المعايير الجمالية للبنية الدينامية رغم التوتر الظاهر داخل العمل الفني.
إسماعيل وإن كان يدرك بأن الخصائص الجمالية ليست ثابتة، يطرح العديد من القضايا الجمالية كدور الانفعالات في الاستمتاع الجمالي، فهو يلخص الكيفية التي ينبغي أن تجري على أساسها تلك الانفعالات، كاشفا مظاهر الاختلاف والاتفاق فيها حتى يقترب من الهدف المرجو منه، فهو يقدم الأنموذج الذي يستجيب لتلك الانفعالات تبعاً للمسافة النفسية بين التعبير بروابطه المختلفة، وبين التذوق في مستوياته المعرفية، وهذا هو ما يمنحه القدرة على التحديد الصحيح لعناصره المألوفة في سياقات غير مألوفة.
يعتمد الفنان على استخدامات الشكل في بعديه التركيبي والجمالي بوصفها إحالات تنصت إلى تأملات حسية أو انفعالية أو واقعية ضمن الالتزام بقواعد الإيقاع ومؤثراته حتى تحظى بدرجات متداخلة وبكل ما تشتمل من أشياء مشذبة تتداخل بدورها على نسيج أسطحه وكأنها رؤاه التي تزيد من تنويعات عمارته الحديثة.
فإسماعيل يهتم بالعلاقة بين الداخل والخارج، بين الروح والجسد، بين مستويات اللاوعي والوعي، وهذا يمكنه أن يقول بوجود أساس ذاتي خاص به، وعليه سيطلق إسماعيل كشوفاته الفنية ليحيي الكثير من تلك الحالات التي تتجنب المبالغة والمغامرة، فالتوجه الأكبر عنده مرتبط بتوقعاته الخاصة، وبتأكيداته المستمرة على البحث عن تفضيلاته المتزايدة على نحو ملحوظ، والتي تميل نحو تفسيرات لطروحات ينبغي وضعها في الاعتبار.
الإنسان غاية الوجود
Thumbnail
الانبساط والأساليب المعرفية هي التي تدفع الفنان نحو مجالات غير نمطية، نحو مجالات مرتبطة بالتعبير، وبالرؤية الكلية للعمل الفني، حيث ينبغي أن تتقدم الخصائص التعبيرية أولاً، تلك الخصائص التي ستخضع للحكم الجمالي القائم على الإمتاع والإشباع لذائقة المتلقي كشكل آخر من الاستدلال الخاص بالحكم الجمالي ذاته، فحينها ينبغي على العمل الفني أن يعبر عن الانفعالات وأن يثيرها، ومن هذا الكثير في أعمال إسماعيل.
كما أن الأمر عنده قائم على إغناء خياله بكم هائل من الأفكار الجمالية المناسبة، وهذه إحدى أهم العوامل المؤثرة في اختزال تراكمات تصوراته شديدة الثراء، فتدفق ما يسمى التأمل الجمالي وعلى نحو خاص في مسارات التجسيد المناسب للرؤية هو شرط أساسي في عالمه الفني لنزع الغطاء عن تجربته مع إعادة إنتاج الجوهر المثير لتلك التجربة، بالتالي إعادة إنتاج هوية خاصة به.
ويكتسب إسماعيل قرابة زمنية بوصفها القوة الإضافية الأهم في تنشيط اللاشعور برقي وإحكام ومهارة يستخدمها الفنان وعلى نحو أخص في صقل الاندفاع بانتباه يجعل من الذاكرة العامل المنظم في سرد النطاق الخفي من صياغاته الفنية، حيث الأنظمة الجمالية فيها مسكونة بعناصر شكلية تلقائية بعيدة عن العشوائيات التي قد تخادع الرؤية الحسية البصرية العادية للمتلقي، وبعناصر تحتاج إلى حساسيات خاصة لكشفها.
مربط لغة الفنان حيث التكثيف من جانب والاختصار والتقنين من جانب آخر وهذه هي السمات الأبرز لتأسيساته العديدة، وكذلك في تعاملاته بالأعماق اللاشعورية لذاته، وهذا بحد ذاته منحى فيه يعالج إسماعيل مواده الفنية بعناية ودراية، وهو المنحى ذاته الذي يدفع إسماعيل إلى الاستعانة بالطيور وسلوكياتها، وبالمرأة وسلاسل ارتقائها لتسرد عنه حكايته مع الإنسان كغاية الوجود، دون غض النظر عن تذبذباتها أو عن ارتفاع حداثية وهندسية سياقاته أو عن هبوطها.
الأسلوب الفني المميز لإسماعيل يفرض تبعاً لتلك السياقات وتطورها، التي تسرد عنه حنينه وحبه، وعموم المسافات التي اتخذها أثناء عملية الإنتاج/ الإبداع وكأن هناك ضرورة لبذل المزيد من الجهد لترتيب منسوجاته، أقصد صياغاته، على نحو يدفع المتلقي إلى الاستغراق والإبحار في سماوات عذبة، مملوءة بالخيال وبكل ما يعطي متلقيه من حوافز الاهتمام.