إبراهيم اليوسف
ما إن أُسدل الغطاء على نعش الفنانة الكردية الرائدة -عيششان- “1938-1996” ووريت التراب اليوم في مسقط رأسها، في آمد، بعد دفنها لأول مرة في إزميربعد وفاتها، تنفيذاً متأخراً لوصيتها، حتى انسكبت الجموع من البيوتات البسيطة الحزينة و الأزقة إلى فضاء الاستذكار. إذ لم تكن مراسم الجنازة حفلة وداع، ولاحلقة رقص، بل محاولة استعادة لتاريخ مديد ذي محطات هائلة. لم تأتِ تلك الجماهير الكردية: من عوام ومسؤولي مجتمع مدني، لترى فنانة رحلت منذ تسع وعشرين سنة، بل لتحيِّي أرومة وأصداء الصوت الذي صمد أكثر من دول، ونجا من حروب، واخترق ألغام وأعين أسوار حصينة، وارتفع فوق أسلاك الحدود. إذ إن الجسد ليس إلا ظل الصوت، الصوت لا يُزال ولايزول، وهو يرتقي إلى أعلى مدارجه عبر الروح الاستثنائية، والموهبة العبقرية، والخبرة التاريخية العميقة.
إعادة دفن الجنازة في” آمد” اليوم18-6-2025، لم تكن مجرد إجراء رمزي، بل كانت استعادة حقيقية لتجاوز ألغام الجغرافيا الممنوعة، وإعادة الصوت إلى تربة النشأة الأولى، كي يعبث بها ظامئة أو مجبولة بماء الغيم أو ماء الينابيع الصافية، ولأن الأمر لم يكن عابرًا، بل أشبه بنداء داخلي طال زمن انتظاره، تابعنا الحدث عن بعد- وهو يهزنا كي نستفيق وننتبه مرة أخرى- كما لو أننا نراقب الجنازة من نافذة القلب. إذ كبرنا جميعًا على صوتها الشجي، ذاك الذي يشبه ماء ينابيع جبال كردستان، وهطل غيماتها المهطال، ورائحة أشعة شمسها القريبة. بل إن صوتها كان نهراً يتلوى على سفوح الطفولة، وجودياً ترسو عليه السفينة، وزاغروساً وطوروساً عاليين، تليدين. سهلاً يمتدّ من الذاكرة إلى الحلم، وطيوراً لا نعرف أسماءها، لكننا نعرف كيف تهزّ أعماق صدورنا كبلابل وكناريات لا تنتمي لقفص، بل لسماءٍ لا تُؤمم.
تم استقبال جثمانها الطاهر في مطار آمد “دياربكر”، واحتشد المئات في استقباله، شباباً وشابات، يحملون صورها على صدورهم، ويرددون أغانيها. ووري جثمانها في مقبرة آمد، كما كانت وصيتها، وسط غياب العلم الكردي، ولكن بحضور طاغٍ لنساء كرديات، أكدن من خلال الحضور والأداء أن روح المرأة الكردية لم تُهزم.
من هنا، لم تكن عیششان “اسماً فنياً فحسب، بل كانت جهاز بثٍّ قوميّ في زمنٍ لا يلتقط فيه الأثير الكردي سوى الرصاص. حين رحلت، لم تأذن لإزمير أن تضمها، فآمد بقيت تناديها بلهجةٍ واحدة: عودي! ولأن الصوت لا يعرف المقابر، عادت على الأكتاف، كما تعود النبوءة إلى شعبها. لقد كان “الكردي” يُولَد ومعه منفى اسمه “اسطنبول”. في تلك المدينة، لم تكن الكلمة الكردية محرّمة فقط، بل مطاردة. مقموعة. إذ كيف يُبث الغناء الكردي من مدينة تُطفئ الحروف قبل أن تُقال؟ كانت أروقة الإذاعة تصمّ آذانها عن أي نغمة لا تبدأ بلسان السلطان، ومع ذلك، تسللت الأغنية عبر الثقوب، لا كخيانة، بل كأمل.
وفي ظل هذا الصمت الإعلامي القاتل، وفي غياب أي مؤسسة ثقافية تمثل الكرد، نهضت الأغنية كبديل عن وزارة الثقافة، وتقدمت كوزارة إعلام بديلة، ثم ارتدت خوذتها لتصير وزارة دفاع، تدافع عن اللسان حين يُجلد، وعن القصيدة حين تُقمع، وعن الهوية حين تُقتلع من جذورها. ومن هذا الباب نفهم كيف أن أغنيةً وحيدة، مغناة بلهجةٍ ممنوعة، كانت تفعل ما لا تفعله الخطابات، وتبلغ ما لا تبلغه النشرات. لم يكن الغناء ترفاً، بل احتياجاً. لم يكن صوتاً جميلاً في عرس، أو حفل، أو سهرة، بل بيان تحد ووجود. وعندما كان الفتى الكردي يهمس بكلمات أغنية في الزقاق، لم يكن يغني لحبيبته، فحسب، بل يعلن انتماءه، لأرض، ووطن. لجبل وسهل. الأغنية هنا لم تكن فنّاً فقط، بل طقساً قوميّاً، حافظ على اللغة كما تحافظ الجبال على الثلج في عزّ الصيف.
وتأسيساً على هذا، فإننا نستعيد دور الأصوات التي نهضت في أحلك الظروف، لتصنع وعياً جديداً، حين عجزت المدارس عن تدريسه. يوسف جلبي، رفعت داري، عیششان، محمد عارف جزراوي، شيرين، وسعيد يوسف ومحمد شيخو وشفان، وغيرهم، لم يكونوا فنانين كما تصفهم المعاجم، بل مؤسسي وجدان، ومهندسي ذاكرة. كانوا قارعي الطبول التي سبقت الثورة، والسيوف التي رفرفت دون دم.
لقد غنت عيششان عشرات الأغاني التي لا تزال تُردَّد حتى اليوم. من بينها أغنيتها الشهيرة “قدريQedwere” التي غنتها عن ابنتها شهناز بعد وفاتها المأساوية، حيث ظلت عيششان، بعد إصابتها بالسرطان، وحيدة، منهكة، في إزمير، بعيدة عن أهلها. تحدّث ابنها، الذي رافق التشييع، عن محطات حياتها:الوطن- ألمانيا- إزمير. كفاحها. إبداعها، وصيتها، وعن تفاصيل معاناتها وألمها، في لقاءات إعلامية مؤثرة.
وغنت أغنياتها بعد مواراة جثمانها التراب عشرات النسوة والفتيات الكرديات، منهن من قدّمن أغنيات حزينة وموروثة شعبية بصوتها، منها “بافي سيراني”، ليظل صوتها ممتداً في الوجدان، لا بوصفه ذكراً لفنانة، بل كأيقونة تحدٍّ لروح المرأة الكردية الحرة.
ولعلّ هذا ما يجعل من الأغنية، في غياب الكتب، مكتبة. وفي غياب المجلات، صحيفةً يومية. وفي غياب الوعي السياسي، خلية مقاومة، تدرّب الوجدان على الانتماء، وتعطي الطفولة درسها الأول: أن تكون كردياً يعني أن تغني للغد حتى لو خُنقت اليوم.
وهكذا، لم تكن الأغنية حنينةً للذكريات، بل حصناً متقدماً للكرامة. حافظت على مفردات تُشطب من القواميس، وعلى أوزان تُمنع في المدارس، وعلى أسماء أماكن تحوّلها السلطات إلى أرقام. ولهذا، حين تسأل الكردي اليوم عن لهجته، يجيبك بلحن. وحين تبحث عن تاريخه، يقدمه لك موشحاً. فالأغنية الكردية لم تكن فقط وسيلة ترفيه، بل وسيلة بقاء. بل إن ما يُدهش، أن كثيراً من المفردات الكردية التي حافظت على شكلها، نُقلت إلينا عبر الغناء، لا عبر الكتابة. لأن الأغنية كانت أسرع من الرقيب، وأخفّ من المصادرة. وهكذا استطاعت أن تحمي الجذر من الذبول، وأن تُغني اللغة بدل أن تندبها. وفي المقابل، كانت السلطات التي تحكم أجزاء كردستان تخاف الأغنية أكثر مما تخاف الرصاصة. إذ إن اللحن لا يُرى، لكنه يتغلغل. لا يُمسك، لكنه يُصيب. ولذلك، حاولت الحكومات قمعها، وتشويهها، واختراقها، لكنها لم تستطع إلغاءها، لأن الأغنية الكردية لم تكن تنتظر تصريحاً كي تُقال. وهنا تتجلى معجزة الصمود: فبينما كان الإعلام يشيطن الكردي، كانت الأغنية ترويه كما هو، بلهجته، بدموعه، بقهقهته، بلثغته، بشيب أمه، بوجع أبيه، بخارطة جباله، ومواويل شتائه.
إذ إن الأغنية الكردية ليست لوناً من الفن، بل هي التجسيد السمعي لوجود أمة. تُسمع لتُفهم، وتُفهم لتُحب، وتُحب لتُخلّد.ومن ثم، فإنه لا يمكن فصل النشيد عن السيرة، ولا المغني عن المؤرخ، ولا العازف عن الفدائي. لأن من يغني بالكردية، لا يؤدي دوراً فنياً، بل يخوض معركة. ولذلك، فإنه حين عادت عیششان إلى”آمد”، قد عادت كمن تعود بعد النصر. لم يكن في تابوتها مجرد بقايا هيكل عظمي كان جزءاً من نسغ وعماد أغنيتها، بل أرشيفاً. لم تحضر الدولة في إهابها المرجو، لكن حضرت الأمة. لم تُرفع الأعلام الرسمية، كما ينبغي، بل ارتفعت الأوتار. لقد فهم الكرد، منذ البداية، أن لا دولة تحميهم، لكن الأغنية ستفعل. لا صحيفة تقول عنهم الحقيقة، لأن الأغنية تبوح. فهي ليست قراراً سيادياً يحفظهم، لطالما أن اللحن يثبت حضورهم ووجودهم. ولهذا، فإن كردستان لن تُقهر، مادامت تحتفظ بأصداء أصواتها الأصيلة، بل وأرومة أصدائها، وتحفظ أسماء مغنيها، وتقدّس من مرّ من هنا وهو يغني، لا لكي يُصفّق له، بل لئلا يُنسى.