غربة بلا روح: الوجه الآخر للحرية في الغرب

ياسر بادلي – المانيا ميونخ

 

حين نحزم حقائبنا ونغادر أوطاننا إلى العالم المتقدّم ، نظن أننا نمضي نحو فضاء مفتوح، حيث الحرية والكرامة وحقوق الإنسان. نُمنّي أنفسنا بمستقبل أكثر عدلاً وراحة، حيث تتحقق الأحلام وتنمو الطموحات. لكن الواقع، في كثير من الأحيان، يكون مختلفًا، بل صادمًا.

دخلت الغرب وأنا أبحث عن حياة أوسع، وحرية أعمق. لكنني وجدت نفسي داخل غابة أنيقة المظهر، دقيقة التنظيم، باردة في جوهرها. كل شيء يسير هنا وفق نظام صارم، لكن هذا النظام لا يُنقذ الروح من الوحدة، ولا يمنح النفس سكينة.

الرجال يعملون كأنهم آلات، والنساء يشاركنهم نفس الدور؛ لا وقت للعاطفة، ولا متسع للتراحم. الحياة اليومية تبدأ مبكرًا ولا تنتهي حتى تنطفئ الأنفاس. المرأة هنا مساوية للرجل في الأعباء، لكنها فقدت ما كانت تملكه في مجتمعاتنا من دلال واحتواء وعناية شعورية. لا يعني ذلك أن الشرق مثالي، لكنه على الأقل يمنح المرأة مكانة خاصة في قلب الرجل واهتمام الأسرة.

الحرية في الغرب ليست كما تخيّلناها. هي حزمة من القوانين، توجّه الفكر، وتقيد التعبير، وتحاصر النفس باسم الانضباط . كل شيء محسوب، كل شيء مراقب. تختنق الروح تحت وطأة الالتزام البارد، وتذوب المشاعر في زحمة الحياة الرتيبة.

الجانب الاجتماعي لا يقل قسوة. التعاطف الإنساني قليل، والعلاقات الاجتماعية سطحية. الجار لا يعرف اسم جاره، والابتسامة غالبًا ما تكون مجاملة لا تعبيرًا عن محبة. الأطفال ينشأون في مناخ مادي محض، حيث الأخلاق التقليدية والعادات الجميلة تذوب في ثقافة الاستقلالية والحرية المطلقة، حتى ليكاد الإنسان ينسى من أين أتى، وإلى من ينتمي.

في المقابل، رغم القيود في الشرق، هناك حرارة في العلاقات، ورعاية في البيوت، واحترام صادق للمرأة والأسرة. هناك ارتباط حقيقي، لا وهمي، بين الناس. القيم لا تزال حاضرة، وإن كانت مهددة، لكنها باقية في الأرواح.

نعم، الغرب متقدّم في مظاهره، غني بإمكاناته، لكنّه فقير في روحه، جاف في إنسانيته.
بينما الشرق، رغم مشاكله، يظلّ دافئًا، عاطفيًا، مليئًا بذلك الشيء الذي لا يُقاس: الانتماء.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

ليست سوى الحرب
تأكل أضواءنا
و رجالها
في دهاليز المملكة
يكيلون دماءنا
مُذ عرفت
أن الرب
في عليائه يستريح
كمحارب قديم
أتى تواً
من الجبل
و أحلامنا ..
آمالنا
تذهب في الريح
بحثاً عن أشلائنا
هل كانت الأمور
في السموات العشرة
على ما يرام
حين خلت المدينة
من أبنائها
إلا من بقي نائماً
تحت الركام
و زخات المطر
بعد القصف
هل كانت
دموع الرب في عليائه
على عباده
أم كانت
رذاذات صرخة
لطفل يبحث عن أمه
كل المعابد
لا تصلح لإطفاء الحريق
فالرب متعب
والكهان متعبون …

جوان سلو

 

في عالم الشعر، حيث تصبح الكلماتُ أصداء روحٍ متعبة، يأتي عنوان المجموعة الشعرية “جداريات الماء والرمل” كصرخةٍ صامتة تُجسّد تناقضَ الذاكرة بين الخلق والزوال. بين الوهم والحقيقة، والأمل والمصير. عنوان لا يقتصر كونه مزيجٌ سرياليّ لعناصرَ طبيعية فحسب، بل جاء كبوابة مواربة تقودنا إلى عالَمٍ تُبنى فيه الذكرياتُ كجدرانٍ وهمية، ثم تتحول إلى ركامٍ…

ا. د. قاسم المندلاوي

في هذه الحلقة نقدم للقارئ الكريم نبذة مختصرة عن حياة فنانين مناضلين، وهما الفنان البيشمركة الراحل محمد شيخو والفنان البيشمركة الراحل سعيد كاباري، عاشا معظم حياتهما في خدمة القضية الكوردية من خلال الموسيقى والغناء الوطني والثوري. وعانا مرارة النفي والملاحقة والتعذيب في…

تنكزار ماريني

 

الشعر هو شكل فني من الأدب يتميز باستخدام اللغة الكثيفة والجمالية. على عكس النثر، يستخدم الشعر عناصر هيكلية خاصة مثل الوزن، وبناء الأبيات، وأنماط القافية. يعتبر الإيقاع عنصرًا مركزيًا، حيث يبرز الطابع الموسيقي للقصيدة ويعزز العواطف والمشاعر التي ينقلها النص.

الإيقاع

ينشأ الإيقاع في الشعر من تفاعل الوزن – التركيز المنتظم على مقاطع معينة – مع…