جداريات من صدأ.. شعرية العدم في مواجهة الزمن قراءة في ديوان “جداريات الماء والرمل. الهبوط الأول على سلم الياسمين” للشاعر محمود عبدو

جوان سلو

 

في عالم الشعر، حيث تصبح الكلماتُ أصداء روحٍ متعبة، يأتي عنوان المجموعة الشعرية “جداريات الماء والرمل” كصرخةٍ صامتة تُجسّد تناقضَ الذاكرة بين الخلق والزوال. بين الوهم والحقيقة، والأمل والمصير. عنوان لا يقتصر كونه مزيجٌ سرياليّ لعناصرَ طبيعية فحسب، بل جاء كبوابة مواربة تقودنا إلى عالَمٍ تُبنى فيه الذكرياتُ كجدرانٍ وهمية، ثم تتحول إلى ركامٍ تحت أمواج النسيان. 

جداريات محمود عبدو الماء والرمل ” الهبوط الأوحد على سلم الياسمين” هو الديوان الشعري الأول الحائز على المركز الأول في مهرجان أوصمان صبري للأدب لعام 2023، قد جمعت بين صفحاته أحداث ما عاشه الشاعر إبّان نفيه الوظيفي أمنياً من مدينته ” ديرك ” ذات الماء والخضار للبادية السورية ” مركدة ” في عام 2009 وما بعدها، هي قصائد مستعارة للزمن الهارب. فالشاعر هنا يحاول نقش ذاكرته على سطحٍ متحرك، كمن يكتب على ماءٍ أو يرسم على رملٍ ينجرف مع الريح. هذه المفارقة تذكرنا بـ ” لوحات دالي الذائبة “، حيث الزمن يُذيب اليقينَ ويحوّل الواقعَ إلى أحلامٍ سائلة.

الماء والرمل.. ثنائية الخلق والخراب

الماءُ رمزٌ للحياة والعاطفة الجارفة، يروي بها الشاعر ذكرياته، بينما الرملُ هو ذاك الجفاف المتجسّد والجمود المؤقت، هو صورة للحظات عابرة كقلعة تُبنى ثم تُدفن بأقدام الأطفال، محاولاً الدمج بينهما، كي يُولد تناقضاً سريالياً ويخلق جمالية اللا ثبات، في زمن الفوضى، وكأن قصائده هي محاولاتٌ لتحنيط اللحظات في “قارورة زمن” مصنوعة من زجاجٍ رهيف، لكنها قابلة للتحطم بأدنى لمسة.

يختار الشاعر هذه الكلمات على لوحة الغلاف الخلفية:

 

” أصابعي لا تحجب الصدأ

كمنديل مرتّب وضعك الله على الأرض

تطوي خطاك الهنيّهة

خدوشُ يومك تزداد كمرآة

تزدان كشاهدة قبرٍ متآكلة

عُمرك تقضيه بين طعنتين

لا الماء يكفي رملك

ولا الرمل يُشيّد صحرائه

لا خريفك يُحسن عدّ أوراق سقوطك

والجواز- جواز جنونك- يشمُر عن ألماس طلقة

قد تُطلقها للسماء العمياء عنك

أو لشبهِ حياتك”.

 

الذات في مواجهة العدم

 

إن الإحساس بالعجز أمام تآكل الذات يغلّف الشاعر بالصدأ، حيث يحاول عبثاً تنظيف وجه الحياة بمنديلٍ مرتب، لكن محاولته تصطدم بالواقع فيفشل، كمن ينظف مرآةً مشققةً بخدوش الوقت.

فالذات تُقاسَم بالشقوق، والمرآة لا تعكس إلا التشوهات المتكررة في يأس. حيث لا الماء يكفي لروي عطش الذاكرة.. ولا الرمل يُشيد بنيان الروح، وما بين طعنة الولادة وطعنة الموت، تتوه السنوات وتتسرب من بين أصابع خريف عمره، فيصيبه الجنون، وكأن الشاعر يعترف بأن قصيدته لن تُخلّد شيئاً من ذاكرته الهشّة، لتصبح كلماته غباراً لا يستأذن حين يسقط، لكنه يترك وراءه طبقة من الرماد الشعري، حينها يرفع رأسه عالياً ويطلق الطلقةُ الأخيرة نحو السماء العمياء، بعد أن أيقن أن جدارياته لن توقف الصدأ.

 

لا تترك صوتك لزوّار الغيم

لا تترك خلفك صوتاً وأنت تصعد الموت

لا تُغمض عينك

وأنت تُخرج قدمك من فم الأرض.

في صمتٍ تَخلّص مما يُبقيك على قيد الظل

وانتظر مرور الأحذية فوقك كالغيم

تشبث بالوجع” أنيسك الوحيد”..

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

يقال إن الأمثال خلاصة الحكمة الشعبية، لكن هناك أمثال في تراثنا وتراث المنطقة باتت اليوم تحتاج إلى إعادة تدوير عاجلة… أو رميها في أقرب سلة مهملات، مع بقايا تصريحات بعض المسؤولين. مثال على ذلك: المثل “الذهبي” الذي يخرجه البعض من جيبهم بمجرد أن يسمعوا نقداً أو ملاحظة: “القافلة تسير والكلاب تنبح” كأداة جاهزة لإسكات…

شكري شيخ نبي (ş.ş.n)

توقف ؛

على رسلك في المدى

الافق سوار من اللظى

عويل الجوعى

نداءات و جعجعة

وغزة توشحت بالصدى ..!

 

توقف ؛

على هدي الهديل

فالشارات حمراء

من جفلة الجلنار وزحام القذى ..؟

و ..دع الأمير يمر

أمير من غزة

يقطع الشك في المدعى

من سخام الحياة

إلى نور السماوات في المرتجى ..؟

 

توقف ؛

عند هذيان حمى الصبر وأنتظر ..

انتظر..

امير الصبر

حتى اكتمل رغيف القمر ..!

قطعوا عليه سبل درب…

ماهين شيخاني.

في شمال الشرق، حيث نمت سنابل الحنطة إلى جانب أعمدة النفط، بنت القرى سورها بيديها، وزرعت فوقه أشجاراً تحرس الأطفال من شمس الصيف ورصاص الغرباء.

كانوا يقولون:

– لسنا ضد أحد… فقط نريد أن نعيش.

لكن في دمشق، تبدّلت الوجوه.

الوجوه القديمة غابت، وجاءت وجوه جديدة: لحى غريبة، لغات غريبة، عيون لا ترى في الخرائط إلا الحدود التي…

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن.

 

أيُّ ضياعٍ هذا…

زوبعةٌ من آلام الماضي،

تدور بي حتى تخلعَت جذوري من أرضي.

 

الماضي… عَلقَةٌ غامقةُ اللون،

تختبئُ ف ي تلافيف عقلي،

تتنفسُ من دمي،

وتتركُ في أعصابي طنينًا لا يصمت.

 

لا تُمهلني هدوءًا،

ولا تسمحُ لجفني أن يستسلما لنعاسٍ رحيم.

 

أقفُ أمام المرآة…

أحدّق في وجهي كأنني أبحث عن طفلٍ ضاع في داخلي،

طفلٍ بعينين غارقتين في الخوف،

يقف في زاوية الغرفة

يتجنّب نظرات…