ماهين شيخاني
رجع “أبو شفان” إلى البيت في ساعةٍ متأخرة، يجرّ خطواته كما لو كانت أثقل من جسده المنهك. وجهه مكفهر، ملامحه كانت كمن ذاق مرارة أعوام دفعةً واحدة. ما إن فتح باب الدار، حتى لمح ابنه البكر “مصطفى” جالسًا في العتمة، ينتظره كأنه ينتظر مصيرًا لم يأتِ بعد.
– “أهلاً أبي… تأخرتَ الليلة”.
– “كنتُ في مشوار يا مصطفى…”
ثم توقفت الكلمات في حلقه، وتقدمت دمعةٌ ثقيلة من طرف عينه، دمعةٌ لم تكن للمرة الأولى، لكنها حملت قهرًا أقدم من الفجر.
جلس قبالة ابنه، تنهد وقال:
– “مشوار لن أنساه ما حييت. كنتُ أعترض على انتسابك للحزب، لكنّي اليوم أراك على حق. لو كنتُ بعمرك، لوقفت كما وقفتَ، ولصرخت كما تصرخ.”
مصطفى، وقد بدا أكثر انضباطًا من المعتاد، سأل بهدوء:
– “تحقيق؟! أمن؟ ما دخل الأمن بمخبزك؟ ألا توجد مديرية للتموين؟”
ضحك أبو شفان بسخريةٍ ممزوجة بالمرارة:
– “أوه يا بني… نحن في بلاد لا تحتاج لسبب كي تُدان. حكايةٌ عن عمالة، ووشاية من ابن الجيران، وأصبح أبو شفان مشروع خائن… ببساطة.”
سرد القصة كما يسرد أحدهم نكتة حزينة:
العامل القديم ترك البلد، فجاء بآخر غريبٍ عن الحي. استأجر غرفة عند “سعد” العامل القديم، ولم تمر شهور حتى بدأ الخبز يقلّ… والغلة تنقص.
“اكتشفت اللعبة” – قالها وهو يلوّح بيده:
“في الزحمة، يمرّرون الرفش إلى صندوق العجين، قطعة قطعة، وكأنها لا تُرى، لكنها كانت تسرقني كل يوم!”
هزّ مصطفى رأسه بأسى:
– “والأمن؟ ما علاقتهم بذلك؟”
– “سعد، حين طُرد، عاد إلى أصله… صار مخبرًا. وعمّه، الذي يتبرأ منه الجميع، ذهب يشي بي إلى المفرزة. ولأن الضابط الجديد، أبو طلعت، يبحث عن قربان يثبت به قوته، وجدتُ نفسي على طاولة التحقيق ليلاً، كأنني لصّ، لا صاحب فرن يطعم الناس.”
نهض مصطفى من مكانه، صوته حادّ:
– “سأقف في السوق، وأبصق في وجه أبو سعد. سأصرخ: (سارق! أنت وعائلتك تتعيشون من فتاتنا وتنهشون كرامتنا!)، ثم ليفعل الأمن ما يشاء!”
لكن الشيخ أباه أمسكه من يده، تلك اليد المتجعدة التي تشبه يداً خرجت من فرن العمر:
– “لا يا بني، لا. هؤلاء لا يبحثون عن الحقيقة… بل عن خطأٍ كي يدفنوك به. تروّى.”
صمت ثم استدرك:
– “ما رأيك أن نلجأ إلى أبو سعيد؟ رجل له كلمته.”
– “أنت تؤمن بالجاه؟”
– “لا، بل أؤمن بوجوب إنهاء هذه المهزلة قبل أن تأخذنا إلى ما هو أسوأ.”
وفعلاً، ما إن سُردت القصة على “أبو سعيد”، حتى تحرك الهاتف في الخفاء، وهدأ رئيس المفرزة في المساء، وانتهى التحقيق، لا بالقانون، بل بـ… “كيس طحين”.
في صباح اليوم التالي، عاد الفرن ليشتعل، ليس بنار الحطب فقط، بل بحرقة كرامةٍ مُهانة، ومدينةٍ تصنع العجين بيد، وتخاف من عيونٍ تكتب التقارير باليد الأخرى.
مصطفى كتب في دفتره الجيبي:
“نحن خبازون، نعم…
لكننا نعرف أن الخبز بلا كرامة، طحينٌ حرام.”