هيثم حسين يفتح أرشيف جسده في سيرة مؤلمة

عن منشورات “رامينا” في لندن، صدرت حديثاً السيرة الذاتية للكاتب والروائيّ الكردي السوري هيثم حسين بعنوان “هكذا عشتُ الجحيم”، وهي عمل أدبيّ يسرد فيه تجربته الحية في مواجهة حادثة الاحتراق الذي تعرّض له خلال خدمته العسكرية الإلزامية في سوريا نهاية القرن المنصرم، والذي خلّف آثاراً جسدية ونفسية امتدت لعقود، وشكّلت منعطفاً حاسماً في حياته الشخصيّة والأدبية.

هذه السيرة استعادة لحادث مأساوي، وتأمّل طويل في ما يحدث للجسد حين يحترق، وللروح حين يُطرد منها الأمان، وللهوية حين تُعاد صياغتها بالقسوة. منذ السطور الأولى، ينقل القارئ إلى قلب جحيم الاحتراق بوصفه استعارة وواقعاً مادياً ملموساً.

يتنقل السرد بين مشاهد القطعة العسكرية، المستشفيات، المواجهة مع العائلة والأصدقاء والمجتمع، وبين تأملات شخصية في العزلة، في النظرات، في تطهير الجروح والندوب، في المرآة التي لا تكفّ عن إعادة إنتاج ما ظنّ أنه اندثر. لا يعرض حسين نفسه كضحية ولا كبطل، إنما ككائن معلّق بين حريق لم ينطفئ، وصوت لا يريد أن يُدفن.

يمتزج في هذه السيرة الخاص بالعام، ويتقاطع الجسد المحترق مع جسد الوطن المقهور. يحضر القمع العسكري، التمييز، المراقبة، وكأن السيرة الفردية ما هي إلا صورة مكبّرة لمأساة سورية مستمرة. وبينما يتأمل حسين في الحروق الجسدية، نراه يتأمل في الوقت نفسه في احتراق المعنى، وتشوّه القيم، وتآكل اللغة التي لم تعد قادرة على التستّر.

يضمّ الكتاب مشاهد تفصيلية عن الحادثة: كيف اشتعلت الخيمة، كيف التصق جسده بالحديد والنار، كيف كان الجنود يجرون مذعورين، كيف كان الصراخ يُخنق تحت وطأة الرعب، وكيف لم يكن هناك من “نظام إنقاذ”، إنما فقط غريزة نجاة عارية في وجه الإهمال واللامبالاة والبيروقراطية العسكرية. ومع ذلك، فإن الأشد قسوة لم يكن لحظة الحريق نفسها، لكن ما تلاها: مواجهة النظرات، إعادة تعريف الذات، التعايش مع الجسد المتشوه، والقدرة على إعادة الاعتراف بالمرآة.

هذا الكتاب يقع في ٢٢ صفحة من القطع المتوسط، ويُعدّ الثالث من مشروع أوسع للكاتب، سبق أن عبّر عنه في كتابين سيرين سابقين، هما “قد لا يبقى أحد” و”العنصريّ في غربته”، حيث يقارب فيه الذاكرة بوصفها أرضاً محتلةً من قِبل الصمت، ويستعين بالكتابة لاستردادها، بقصد التأريخ تارة، ومقاومة المحو تارة أخرى. في هذا السياق، فإن “هكذا عشتُ الجحيم” هو بمثابة محاولة لاستعادة الصوت في حضرة العطب، ولحفظ ما تبقى من المعنى بعد الخراب.

“هكذا عشتُ الجحيم”، محاولة شاقة لكتابة ما لا يُحتمل، وما لا يُقال، وهو عمل يؤرّخ للندبة من داخلها، لا من حولها.

مما جاء في كلمة الغلاف:

بعد مرور ربع قرن على حادثة احتراقه التي غيّرت مسار حياته، وبعد أن أمضى الكاتب سنوات طويلة يحاول الهروب من ثقل الذكريات، قرّر أخيراً أن يواجهها بالكتابة، ليحوّل الألم الذي عاشه إلى مادّة إبداعيّة، لا لإعادة استحضار الجحيم، بل لتأمّل أبعاده وتأثيراته على تكوينه الإنسانيّ.

تمكّن الكاتب في هذه السيرة من مواجهة آلامه المتجذّرة، وتحرير ذاكرته من أسرها، والكتابة عن تلك اللحظات التي ظلّت تلاحقه ككابوس متجدّد، ليقدّم شهادة استثنائية عن صراعه مع واحدة من أقسى التجارب الإنسانيّة التي يمكن أن يمرّ بها المرء.

يواجه هيثم حسين في سيرته هذه جحيمه الشخصيّ الماضي، لا ليحكي عنه فقط، إنما ليُظهر كيف يمكن للنار التي أتت على الجسد أن تصبح شعلة تضيف إلى الروح أبعاداً جديدة.

يحاول الكاتب في هذا العمل صياغة العلاقة بين الإنسان والمحنة، بين الماضي الذي لا ينفكّ يطاردنا والحاضر الذي يدفعنا للمضي قدماً، والغوص في الطبقات العميقة للذاكرة. يكشف كيف يمكن للحوادث الكبرى أن تعيد تشكيل الهوية، وكيف تصبح لحظات الألم بوّابات لإعادة التفكير في معنى الحياة، وفي قدرتنا على التغيير والنهوض من تحت الرماد.

تعريف بالمؤلف:

هيثم حسين: روائيّ كرديّ سوريّ، من مواليد عامودا 1978م، مقيم في لندن، عضو جمعية المؤلفين في بريطانيا، مؤسّس ومدير موقع الرواية نت. ترجمت أعماله إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة والتشيكيّة والكرديّة… من أعماله الروائية والقصصية والنقدية: “آرام سليل الأوجاع المكابرة”، “رهائن الخطيئة”، “إبرة الرعب”، “عشبة ضارّة في الفردوس”، “قد لا يبقى أحد”، “العنصريّ في غربته”، “كريستال أفريقيّ”، “حين يمشي الجبل”، “الرواية بين التلغيم والتلغيز”، “الرواية والحياة”، “الروائيّ يقرع طبول الحرب”، “الشخصيّة الروائيّة.. مسبار الكشف والانطلاق”، “لماذا يجب أن تكون روائياً؟!”.

الموقع الشخصيّ للكاتب:

Haithamhussein.uk

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خلات عمر

لم يكن الطفل قد فهم بعد معنى الانفصال، ولا يدرك لماذا غابت أمّه فجأة عن البيت الذي كان يمتلئ بحنانها. خمس سنوات فقط، عمر صغير لا يسع حجم الفقد، لكن قلبه كان واسعًا بما يكفي ليحمل حبًّا لا يشبه حبًّا آخر.

بعد سنواتٍ من الظلم والقسوة، وبعد أن ضاقت الأم ذرعًا بتصرفات الأب…

خوشناف سليمان

لم تكن الصحراء في تلك الليلة سوى صفحة صفراء فارغة. تنتظر أن يُكتب عليها موتٌ جديد.
رمل يمتد بلا نهاية. ساكن كجسدٍ لا نبض فيه. و الريح تمر خفيفة كأنها تخشى أن توقظ شيئًا.
في ذلك الفراغ توقفت العربات العسكرية على حافة حفرة واسعة حُفرت قبل ساعات.
الحفرة تشبه فمًا عملاقًا. فمًا ينتظر أن يبتلع آلاف البشر…

تلقى المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا، اليوم، بحزن، نبأ رحيل شقيق الزميلة رقية حاجي:

نايف أحمد حاجي
الذي وافته المنية في أحد مشافي هولير/أربيل عن عمر ناهز ٥٩ عامًا.

يتقدم المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في سوريا بخالص العزاء للزميلة رقية حاجي، وللفنان حسين حاجي، وللناشط عبدالكريم حاجي، ولعموم عائلة…

صبحي دقوري

في لحظة ثقافية نادرة، يتصدّر الموسيقار الكوردي هلكوت زاهير المشهد الموسيقي العالمي بعدد أعمال معتمدة بلغ 3008 أعمال، رقمٌ يكاد يلامس الأسطورة. غير أنّ أهمية هذا الحدث لا تكمن في الرقم نفسه، بل في ما يكشفه من تحوّل جذري في مكانة الموسيقى الكوردية ودورها في المشهد الفني الدولي.

فهذا الرقم الذي قد يبدو مجرّد إحصاء،…