فواز عبدي
عاد شاهين إلى بيته بعد يومٍ طويلٍ من العمل. كان الليل قد فرد عباءته الثقيلة على المدينة، والريح تزحف من النافذة الضيقة كيدٍ تتلمّس طريقها في عتمة غرفةٍ باردة. خلع معطفه بتثاقل، كأنما يخلع عبء النهار عن كاهله. وقبل أن يذوب في صمت المساء، اخترق رنين الهاتف سكون الغرفة كنقطة ضوء مرتعشة في قاعة مهجورة.
رفع السماعة، فتسلّل صوتٌ من الطرف الآخر، ناعمٌ خجولٌ في ظاهره، يحمل في أعماقه إصرارَ من يخشى أن يفلت آخرَ حبلِ نجاة.
– مساء الخير أستاذ شاهين… قد لا تعرفني، وهذا طبيعي، لأننا لم نلتقِ. لكنني كلما طرقتُ باباً، رأيتُ الدروبَ تنحني لتقودني إليك، كما تنحني براعم الزهر عطشاً تبحث عن كفٍ تسندها.
ظلّ شاهين صامتاً برهةً يتأمل هذا المدخل الغريب، لكنه وجد فيه صدق المرتبك الحائر. قال أخيراً، وهو يعتدل في جلسته استعداداً لضيف غير متوقع:
– تفضل، إن كان في وسعي فلن أردّك خائباً، خاصة إن كان من دلّك يظنّ بي خيراً.
تنفّس الرجل كمن حرّر قلبه من ضيقه.
– أشكرك يا أستاذ. أنهيتُ ترجمةَ كتابٍ وأحتاج إلى مراجعة أمينة.
ثم أضاف، بعد لحظة تردد طفيف، كمن يدسّ إصبعه في ماء لا يعرف عمقه:
– هل نتفق على الأتعاب؟
ابتسم شاهين ابتسامةً صغيرة فيها من الحنوّ أكثر مما فيها من المزاح.
– لم آخذ من غيرك حتى آخذ منك. اعتبرها هديةً لوجه الحرفة، ولعملك الجديد.
اتفقا على موعد، وانتهت المكالمة، تاركةً خلفها في الأثير خيطاً رفيعاً من الفضول…
في الموعد المحدد جاء الرجل. كان شاباً تجاوز الثلاثين بقليل، طويل القامة، نحيل الجسد، كأنه وترٌ مشدودٌ بين نوتتين متباعدتين.
ارتدى معطفاً طويلاً بلون الفحم، يرفرف طرفاه كستارةٍ يعبث بها الهواء. في عينيه لمعةٌ تجمع بين الخوف والأمل. مدّ يده إلى شاهين بـ”فلاش ميموري” صغيرة، كأنه يسلّمه كمأة صغيرة لم تتفتت، عثر عليها في صحراء قاحلة.
جلسا أمام شاشة الكمبيوتر التي انعكست عليها عتمة الغرفة كمياه راكدة تنتظر أن يُلقى فيها حجر.
فتح الملف وبدأ يقرأ. بدت الكلمات كأنها خرجت من سباتها، مرتبكة، تتدافع بلا نظام، تتشابك وتنفصل كخيوط دخان في غرفة مغلقة.
رفع شاهين رأسه قليلاً وسأله بصوت خافت:
– هذه ترجمتك؟
ازدرد الشاب ريقه، كمن تردّد لثانية وهو يبحث عن كلمات مناسبة.
– نعم… شهور وأنا أُداعب الكلمات تحت ضوء مصباح كليل. كنتُ أصنع فناجين القهوة أكثر مما سمحتُ لجفني بالاستسلام للنوم.
واصل شاهين القراءة. كل فصلٍ بدا كحديقةٍ مهجورة، الأشجار فيها تتداخل كأصابعٍ متشابكة، والظلال تتراكب حتى تبتلع ملامح النهار. الكلمات تتخاصم مع المعاني، كما يتخاصم الحالم مع كوابيسه التي لا يجد لها مخرجاً.
نادَى شاهين صديقه الجالس في الزاوية:
– تعال شوف ها الخيال العجيب!.
اقترب الصديق وألقى نظرةً فاحصة، ثم قال ضاحكاً:
– إنه يخلق الجُمل من تحت إبطيه… كما يقول أهل عامود!.
ضحكا قليلاً، ثم عادا يغوصان في دهاليز النص…
مضت أسابيع طويلة، وهما ينقبان عن المعاني كما ينقب غواصٌ في بحرٍ معتمٍ عن لؤلؤةٍ غافية. يقشران الجمل كما تُقشر ثمرة بصل؛ طبقةً تعلو طبقة، دموعٌ بلا طعم، وروائح تنتشر في هواءٍ ثقيل. أحياناً يلتقطان جملةً ناعمة كنَسمةٍ في ظهر صيف، وأحياناً يهديهما النص فقرةً كاملة ليُعيدَا بناءها، كمن يشيد جسراً من خيطٍ رفيع، يلامس بحيرةً يغمرها الضباب كوشاح من حرير. حتى جاء اليوم الذي تنفّس فيه النص أخيراً، واستوى على قدميه كطائرٍ خرج من شرنقته، يرفرف بهدوء في الضوء.
عند التسليم، صافح الشاب شاهين بحرارة مَن وجد غيمةً تظلّله في صحراء متوهّجة.
– والله يا أستاذ… هذا دينٌ في عنقي، لن أنساه ما حييت.
ابتسم شاهين ابتسامةً رصينة، كمن يغلق كتاباً بعد قراءةٍ أخيرة.
– لا تقل ذلك، هذا واجب أخلاقي، لا أكثر.
ومضت الأيام.
وبعد نحو شهر، رنّ الهاتف مجدداً. كان الصوت ذاته، لكن هذه المرّة أضعف، كصدى بعيد في بئرٍ قديمة:
– أستاذ… أنا متردّد في كتابة كلمة شكرً لك في مقدمة الكتاب… ما رأيك؟
تنفّس شاهين ببطء، وقال بنبرةٍ ساخرةٍ تمسح الهواء بلطف:
– لا داعي لذلك.
صمت الرجل قليلاً، ثم أجاب وكأنه تخلّص من عبء ثقيل:
– وأنا كنت أفكر بالأمر ذاته…
طُبع الكتاب وانتشر.
بدأ اسم المؤلف يظهر تدريجياً كضوء مصباحٍ صغير، يزداد وهجُه شيئاً فشيئاً في ركنٍ معتمٍ من مدينةٍ لا تعرف النوم.
وفي تلك البلاد التي خرجت سلطتها من تحت الرماد فجأة، كحُلمٍ غامض، قابضة على الأمور بعصاها الغليظة، تلوح بها في وضح النهار، وجد الشاب لنفسه مقعداً في دهاليز السلطة.
وذات مساء، وبينما كان شاهين يتنقل بين المحطات… بعينٍ نصف مغمضة، لاح وجهه على الشاشة، يتحدّث أمام حشدٍ صاخب:
– نحن نعيش عصر الشفافية، ولا ننسى جهود أحدٍ أبداً.
ابتسم شاهين، أطفأ التلفاز وضحك للمرة الأولى منذ شهور… ضحكة قصيرة، ثم سكنت الغرفة تماماً.