نظرات في “سعيد تحسين بك: الأعمال الشعرية الكاملة”(2)

إبراهيم سمو ـ المانيا

 

مضافا الى سيرته: لقاء عابر وموقف لا يزول

سعيد تحسين، وقد استُدرِج قدَره، قبل ثلاثة عقود أو يزيد، إلى سوريا،
جرّته المصادفة، على نحو لا يُرتقَب ولا يُتكرّر، إلى قريتنا.

الضيف الذي حلّ على عائلة “الفقير*”، “حجي ميرزا آل جندو”ـ العائلة الشنكالية التي لجأت إلى سوريا منذ سبعينيات القرن الماضي، هربا من القمع وخذلان الوطن ـ لم يكن ضيفا عابرا.
تكتم الرجل على هويته، وقدّم نفسه على أنه من شيوخ “شيخوبكر”، لا الابن البكر لأمير الإيزيديين.

لكن حسن، ابن “الفقير” حجي، وجاري وصديقي وزميل دراستي، كاشفني بالحقيقة، وعزا تحفظ الضيف إلى هواجس أمنية سائدة آنذاك، ناجمة عن التوتر الحاد بين نظامي “حافظ الأسد” و”صدام حسين”،
في زمنٍ كانت فيه “شبهة السياسة” تتسلّل حتى إلى الاسم، وتُلقي بظلّها الثقيل فوق الهوية.

توالت لقاءاتنا ـ وإن لم تخذلني الذاكرة، فمرتين لا أكثر. في كل مرة، تراءى لي الشاب الوسيم متعففا عن الكلام، هادئا كهدوء لالش، لا يتحدث إلا بدعابة خفيفة أو تهكم آخاذ.
ورغم قلة حديثه، جذبني بأسلوبه الفلسفي المضمَر، واستثار فيّ شغفا ثقافيا كنت مفتونا به، فانكببت على حديثه كعاشق يتلمّس جوهر الأشياء، لا سطحها.

الذاكرة، رغم انتقائيتها المعهودة، لم تُفرّط بتلك التفاصيل النابضة، بل احتفظت بها وكأنها وقعت للتو.
فقد روى لي، فيما روى، لقاءه العابر بعبد الرحمن منيف في مصايف كردستان. لم أتريث لحظة، واقتحمت الحديث بولعٍ مفاجئ، فرأيت على وجهه سرورا خفيّا، كأنه استعاد شيئا كان قد طواه الزمن بلطف.
وسرعان ما امتدّ الكلام، حتى بلغنا صادق جلال العظم، فبادرني بنصيحة مقتضبة: “اقرأ: نقد الفكر الديني “. قالها وكأنه يسلّمني مفتاحا لا يُنتزع.

ثم، وكمن يلطّف الجو قبل أن يثقله الفكر، شرع يستحضر طرائف عمه، “الأمير معاوية”، سواء في مصر مع جمال عبد الناصر، أو في بغداد، أو حتى بين زوجاته، في سرد يجمع بين الذكاء والسخرية والدفء. وبنبرة امتنان، أقرب إلى التقدير منها إلى الفخر، استذكر المحامي الإيزيدي العفريني” شامو خلو”. بدا في روايته كمن يغار على الإنصاف، موثقا عُرفانا لمسه من الأستاذ شامو، الذي هرع لنجدته حين ضاقت عليه الدنيا في حلب.
قال إنه، ما إن اتصل به وعرّفه بنفسه، حتى حضر الرجل فورا، وتكفّل بنفقات “فندق الأمير” للأمير الشريد.
كان يروي ذلك بفخر هادئ، كمن يحتفي بفضائل نادرة، ويخشى عليها من النسيان.

أما تلك الملاطفة الغامضة بينه وبين “حسين”، ابن مضيفه الأصغر، فما تزال عالقة في ذهني.
في البداية، بدا لي حديثهما المبهم كسراب يركض خلفه عقلي، لكن الفكرة تكشّفت رويدا رويدا، حين صارحه حسين، مبتسما، بنيّته البحث له عن زوجة إيزيدية سورية.
لم يُبدِ الضيف أي اعتراض، بل وافق، فأوقعني في حيرة: أهو مزاح عابر؟ أم تلميح مخاتل لرغبة حقيقية؟.
لكنه سرعان ما بدّد دهشتي، حين أفصح، دون مواربة، عن مانعٍ صحي يحول بينه وبين الإنجاب.

لم يكن استهجانه لسلوك رجل الأمن، المكنّى في الجلسة بـ”أبو صلاح”، مجرّد انزعاج شخصي، بل تعبيرا عن إدانة أخلاقية لعسكرة متهوّرة باتت تتدخّل حتى في تفاصيل حياة زوار الخارج.
واكتفى بوصفه بكلمتين: «لوگي… سختچي»؛ لكنهما اختزلتا، بامتعاض وتهكم مركّزين، ملامح سلطة منفلتة، تفتقر إلى الحدّ الأدنى من اللياقة والانضباط . غير ان السؤال الذي لا يزال معلقا:
هل خضع، في ظل تلك المنظومة الأمنية الباغية، لاستجواب تعسفي؟
أم هُدّد بالترحيل القسري؟
أم ابتُزّ ماليًّا أثناء تمديد إقامته؟
أم ثمة ما لم يُفصح عنه؟
لقد تكتّم، لكنه ما إن أُتيحت له لحظة عابرة، حتى أفرغ شحنات من السخط، محتدما على فساد “أبو صلاح” المشهور بتنمّره، وكأن كلماته تئنّ بالمرارة أكثر مما تُفصح عن تذمر شخصي.

وفي لحظة فارقة، وجدتني ـ اعتقد في المرة الثانية ـ وإياه منفردَين في مضيف العائلة المتواضع. وعندما هممت بالمغادرة، أشار إليّ أن أبقى.
استفسرت عن السبب، فأجاب بصوت خافت، فيه بُعد أخلاقي أسمى من مجرد المجاملة: “لا أريد أن أبقى وحدي في بيت هذه العائلة الشريفة، ورجالها غائبون”.

في تلك السويعات المقتضبة، لم يغمرني الأمير المتخفي بثقافته وحدها، بل أكسب طويلب الجامعة المدهوش ذيّاك كذلك عضات من سلوكه، من حرصه المُرهف، ومن نظرته التي حملت حسّا أخلاقيّا نادرا، لا يُستعار ولا يُتكلّف.

الفقير مرتبة دينية عند الايزيديين

 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فواز عبدي

يقال إن الأمثال خلاصة الحكمة الشعبية، لكن هناك أمثال في تراثنا وتراث المنطقة باتت اليوم تحتاج إلى إعادة تدوير عاجلة… أو رميها في أقرب سلة مهملات، مع بقايا تصريحات بعض المسؤولين. مثال على ذلك: المثل “الذهبي” الذي يخرجه البعض من جيبهم بمجرد أن يسمعوا نقداً أو ملاحظة: “القافلة تسير والكلاب تنبح” كأداة جاهزة لإسكات…

شكري شيخ نبي (ş.ş.n)

توقف ؛

على رسلك في المدى

الافق سوار من اللظى

عويل الجوعى

نداءات و جعجعة

وغزة توشحت بالصدى ..!

 

توقف ؛

على هدي الهديل

فالشارات حمراء

من جفلة الجلنار وزحام القذى ..؟

و ..دع الأمير يمر

أمير من غزة

يقطع الشك في المدعى

من سخام الحياة

إلى نور السماوات في المرتجى ..؟

 

توقف ؛

عند هذيان حمى الصبر وأنتظر ..

انتظر..

امير الصبر

حتى اكتمل رغيف القمر ..!

قطعوا عليه سبل درب…

ماهين شيخاني.

في شمال الشرق، حيث نمت سنابل الحنطة إلى جانب أعمدة النفط، بنت القرى سورها بيديها، وزرعت فوقه أشجاراً تحرس الأطفال من شمس الصيف ورصاص الغرباء.

كانوا يقولون:

– لسنا ضد أحد… فقط نريد أن نعيش.

لكن في دمشق، تبدّلت الوجوه.

الوجوه القديمة غابت، وجاءت وجوه جديدة: لحى غريبة، لغات غريبة، عيون لا ترى في الخرائط إلا الحدود التي…

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن.

 

أيُّ ضياعٍ هذا…

زوبعةٌ من آلام الماضي،

تدور بي حتى تخلعَت جذوري من أرضي.

 

الماضي… عَلقَةٌ غامقةُ اللون،

تختبئُ ف ي تلافيف عقلي،

تتنفسُ من دمي،

وتتركُ في أعصابي طنينًا لا يصمت.

 

لا تُمهلني هدوءًا،

ولا تسمحُ لجفني أن يستسلما لنعاسٍ رحيم.

 

أقفُ أمام المرآة…

أحدّق في وجهي كأنني أبحث عن طفلٍ ضاع في داخلي،

طفلٍ بعينين غارقتين في الخوف،

يقف في زاوية الغرفة

يتجنّب نظرات…