جمهورية الكلب للروائي  إبراهيم اليوسف تشظيات الهوية في مرآة الحيوان.. قراءة سردية تحليلية

عبد الجابر  حبيب

 

المنفى بوصفه فضاءً وجودياً:

في سردية منكسرة على الذات، تنبعث من عمق الألم والاغتراب، تأتينا رواية “جمهورية الكلب: استعادات لوقائع غامضة” للروائي السوري إبراهيم اليوسف بوصفها تجربة روائية مركّبة، تُعيد تشكيل أسئلة الفرد اللاجئ، وتفكك ثنائية “الذات/الآخر” داخل جغرافيا جديدة لم تنسَ فيها الذاكرة جذورها. الرواية ليست حكاية كما يفهم البعض عن لاجئ يريد أن يقتني كلباً، بل هي انعكاس معقّد لهشاشة الذات وسط انتقالاتها النفسية، والثقافية، والأخلاقية.

تستخدم الرواية الكلب بوصفه رمزاً مراوغاً، ينفتح على دلالات كثيرة: الذنب، المنفى، الضمير، الآخر، ما وراء حكايات متعلقة بحوادث كان الكلب بطلاً في كلٍّ منها، وليستقي من قصة الكلب في كلِّ مرة تلك المفاهيم الاجتماعية المتوارثة، والانهيار التدريجي لتلك لمفاهيم.

يقول السارد في بداية الرواية:

“ما أقدمت عليه هو التخطيط لاقتناء كلب لمجرد اقتنائه، لا أكثر… لا مسوّغ لي!”

هذه الجملة، الموشّاة بلامبرّرية القرار، تفتح باب السرد على أسئلة مقلقة تتجاوز المنطق، لتصل إلى جوهر الهوية المهزوزة والمنفى بوصفه تمزقاً داخلياً لا جغرافياً فقط.

 

الشخصيات: مرآة الذات وجدل القيم:

رغم قلة عدد الشخصيات في الرواية، فإنها مشحونة بوظائف رمزية كثيفة:

الراوي: ذات مثقفة مأزومة بالمنفى، مسكونة بالأسئلة، تحمل مرجعيات دينية وثقافية، وتفكك كل المسلمات في ضوء الاغتراب.

الزوجة: تمثل القيم الشرقية التقليدية، وتتحول إلى صوت صارخ في وجه التحول، كما في قولها:

 “الكلب أو أنا… اختر!”

وهنا يتجلى الاستلزام الحواري بوضوح؛ إذ تفترض قولاً آخر غير ما يقال: “إنك خنتَ هويتك، وأصبحت غريباً حتى على بيتك”.

بيانكا: تجسيد للثقافة الأوروبية، تسكنها قناعة فخرية بـ”كلابهم”، تقول: كلابكم درّبتموها على المذلة، أما كلابنا فعلمناها الكبرياء.

 

هذا الحوار ــ الذي يبدو مباشراً ــ يحمل استلزاماً ثقافياً ومعرفياً: الآخر يرى أن العربي حتى في علاقته بالحيوان، مروض على الخضوع.

روكي: ليس حيواناً، بل كائنٌ كاشف، مراوغ، يملك قدرة على “الفضح”، ويعكس تحولات السارد:

“روكي الآن ينبح… الجيران ينظرون تجاهي… الأمر محرج.”

 

الكلب هنا ليس كلباً فقط، بل هو “عين المجتمع” التي تفضح، وتُحرج، وتُعري الراوي أمام ذاته والآخرين.

 

الزمكان: منفى النفس والبيت:

تتحرك الرواية في جغرافيا ألمانية صارمة، نظيفة، لكنها باردة نفسياً، لا تمنح الراحة للذات المنفية.

البيت، الشارع، الحديقة، ليست فضاءات محايدة، بل تعكس الاضطراب الداخلي:

 

“أريد بيتاً أسكن فيه وحدي!”

ثم:

 “الثبات للجماد، والتحول للكائن الحي!”

 

بين هذه الجمل، نلمح تحولاً وجودياً يعبر عنه المكان، إذ لم يعد البيت مأوى، بل مرآة لتمزق الداخل عندما تنتقل به الذاكرة إلى أماكن عديدة، كالقرية في مرحلة الطفولة إلى تلك القرية التي أحبَّ فيها البدوية، والمدينة، والإمارات هجرته الأولى

أما الزمن، فيتحرك بنسق تداعي الذاكرة: الحاضر يندمج بالماضي، والمستقبل يتشظى في قلق مستمر، فيتساءل القارئ: هل نعيش فعلاً، أم نتذكّر فقط؟

 

الحبكة والصراع: الكلب كأداة تفكيك

تبدأ الرواية من حدث بسيط. قرار باقتناء كلب. لكنه يتحول إلى نقطة تفجّر سلسلة من التحولات:

ـ تفكك العلاقة مع الزوجة.

ـ صراع مع القيم الثقافية.

ـ توتر داخلي مع الذات، ومع اللغة.

ـ مواجهة مؤلمة مع الماضي.

 

تقول الزوجة في ذروة التوتر: لن يعود إلى البيت إن خرج منه… سنتحول جميعاً إلى علكة في فم الناس!

المشهد لا يُعبّر عن غيرة فقط، بل عن انهيار منظومة رمزية كاملة أمام كلب.

هنا، يتحول الحيوان إلى أيقونة رمزية تهدّد بنية الوجود المنفي.

 

تقنيات السرد: اعتراف، تأمل، رمزية

 

الرواية كُتِبت بضمير المتكلم، مما أضاف عليها طابع الاعتراف، وكأننا نقرأ يوميات نفس مثقفة مأزومة.

لكن هذا السرد يتعدى الخطية، ويمزج بين:

 

السرد الاستعادي: إذ يتذكر الراوي طفولته.

 “كنت أعرف أنني قتلت قطًا، بل قططاً، وأنا بعد طفل صغير…”

 

السرد التأملي:

“الكلب ليس دمية، ولا حمامة، ولا قطاً… إنه ليس ككلاب بلادنا!”

 

السرد الرمزي: الكلب ينبح، ويحرج الراوي، ويكشف هشاشته.

“كأن الكلب يحدثني… يريد أن يقول شيئاً لا أفهمه!”

هنا الكلب يتحول إلى ضمير حي، إلى “أنت” تكلّم الراوي وتلومه.

 

الحوار والاستلزام: ما لم يُقَل.

الرواية مشحونة بلغة مواربة. الحوار قليل، لكنه زاخم بالاستلزام الحواري والمعرفي.

 

مثال على الاستلزام الحواري:

 الزوجة: “الكلب أو أنا”

الراوي (صامتاً): “إكرام الضيف واجب.”

الاستنتاج: لا يدافع عنها، ولا يواجهها، بل يتهرّب من القرار، ويترك المعنى مفتوحاً بين الخضوع، والتمرد، والعجز.

 

أما الاستلزام المعرفي في قوله:

“من يقتن كلباً يدفع ضرائبه، ويدفع ثمن طعامه، ويخسر.”

هنا يفترض أن القارئ يعرف مسبقاً أن الكلب مسؤولية في المجتمع الألماني، لا امتياز. أي أن اقتناء الكلب يفضح هشاشة الاندماج.

 

التناص: شبكة ثقافية مشبعة

الرواية تشتبك مع تراث ثقافي وديني وفلسفي، دون مباشرة.

ـ مع الحديث النبوي:

 “إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً…”

مع وليم بليك:

“موت كلب جوعاً على عتبة دار صاحبه نذير بسقوط عرش.”

مع ابن بطوطة:

 “إذا حرّ الطعام أُطعم الكلاب أولاً، وتُرك صاحبها للتلف.”

هذه الإشارات لا تأتي كزخرفة، بل تُستخدم لتكوين تناص معرفي يُعمّق الصراع بين الثقافة الموروثة، وواقع المنفى.

 

اللغة: هجينة بين التأمل والتهكم

تراوح لغة الرواية بين:

التأمل الوجودي:

 “الكلب ظلّني… وأنا أبحث عن ظلّي.”

السخرية السوداء:

“كنت أقدّم له رغيفاً كرشوة متفق عليها بيننا…!”

الاعتراف المؤلم:

“أعرف أنني لم أقتل كلباً، لكني قتلت قططاً… وما زلت أحمل عقدة الندم!”

 

الكاتب يستخدم اللغة بوصفها أداة تفكيك للعالم، لكنها أيضاً تتحول إلى قناع يُخفي الألم العميق.

 

رمز الكلب: من الحيوان إلى الأيقونة

 

“روكي” ليس كلباً فحسب، بل هو:

الضمير الغائب

اللاجئ الحقيقي

الآخر الغامض

أداة التعري

في النهاية، يقول الراوي:

“الكلب لا يفهم عليّ… بيانكا كانت تكلمه، وكان يستجيب.”

هنا الذروة الرمزية: الكلب يفهم الآخر، ولا يفهم صاحبه.

هذه الخاتمة تلخص كل شيء: الإنسان الذي لا يعرف ذاته، يُستبدل، يُعجز عن التواصل، ويغدو كائنًا بلا هوية حقيقية.

 

رواية أسئلتها أكبر من أجوبتها:

جمهورية الكلب: رواية عن الذات عندما تتشظى في المنفى، وليست رواية عن كلب.

رواية تقول الكثير، بما لا تقول. وتترك القارئ عالقاً في مرآة الكلب ليرى ماوراء هذه المرآة ويسافر عبر الزمكان، ويعود إلى حيث هو، ويسأل نفسه:

من أنا؟

من الآخر؟

 

هل ما زلت أنتمي؟

سؤال يتردد في صدى الرواية، لا بوصفه نهاية، بل كنداء معلّق في فضاءٍ لا يعترف بالإجابات.

«جمهورية الكلب» لا تُغلق على ذاتها، بل تُشرّع أبوابها للنقاش، للتأمل، وربما للبكاء الصامت في العتمة الرطبة لقلب المنفى.

 

لكن المنفى في هذا النص لا يقتصر على جغرافيا مفترسة.

إنه منفى روحي تنهار فيه البديهيات،

منفى ثقافي يتقاطع فيه الحديث النبوي مع نباح روكي،

منفى اجتماعي يفكك البنية العائلية،

ومنفى وجودي يتشظى فيه الإنسان عن نفسه، حتى لا يعود يفهم لغته، ولا يفهمه كلبه.

 

هكذا ينتهي النص كما بدأ:

بعزلة صاخبة،

وبكائن ينبح خارج اللغة،

وبإنسان يُصغي، دون أن يقدر على الترجمة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن

 

وجع، قيح و دخان

موسيقا، همس و كتمان

سهر، ارق، قدح ونسيان

قدر بائس وألوان.

هناك في ذاك الركن حيث لا يراه أحد سواه

يطل من شباكه إلى الخارج او ما تسمى ربما الحياة!!

ظل رجل أو شبه رجل متكئ على كرسي قديم

يرسم بغصن شجرة مكسور خط أعداد عمره

يتأمل ناقصه البائس…

وصفره الحزين وزائده المجهول ..المخيف.

أجواء هادئة تماما، سكون موحش…

فرحان مرعي

 

قرأت الرواية، استمتعت بقراءتها، عبر كاتبها بدقة عن مكنونات نفسه، كشخص شرقي ومهاجر. إنه في الواقع صراع بين ثقافتين مختلفتين، واقع أوروبي، هنا ألمانيا، يتسيد فيها الكلاب عرش العائلة المفقودة، حيث تأتي الكلاب في الدرجة الثالثة بعد الأطفال والمرأة من حيث الرعاية والأهمية، بشكل مختلف عن نظرة الشرقيين الذين يعتبرون حتى لمس الكلاب من…

جوان سلو

 

صدرت عن دار ميزوبوتاميا للنشر في القامشلي. سوريا، رواية للكاتب ممدوح عبد الستار بعنوان ابن عبد الواحد. جاءت في 140 صفحة من القطع المتوسط، إذ تُقدّم نصاً سردياً مشبعاً بالدلالات المتعددة والمفاتيح الرمزية التي تفتح أمام القارئ مسارات تأويلية متشعبة. حيث تبني الرواية أفكارها على مجموعة من نقاط الارتكاز التي تعمل كمفجّرات دلالية،…

احتضنت مدينة قامشلو، يوم السبت 28 حزيران 2025، ندوة نقدية حوارية بعنوان: “قراءة بانورامية في رواية «جمهورية الكلب» للشاعر والروائي إبراهيم اليوسف”، بدعوة من الاتحاد العام للكتاب والصحفيين في سوريا، وبالتعاون مع اتحاد كتاب كوردستان سوريا، وذلك في مكتبة وكافيه القلعة.

قدم الدراسة النقدية الدكتور ولات محمد، القادم من ألمانيا، حيث طرح مقاربة بانورامية معمقة تناولت…